بقلم: چنى العبيديين، راقصة وكاتبة وناشرة مستقلة مقيمة في بيروت بلبنان.
في يوم من الأيام، في عام ٢٠١٨، التقيت بصديقي القديم الممثل زاهر قيس بمدخل مسرح المدينة ببيروت. تجاذبنا أطراف الحديث وتبادلنا الأخبار والأفكار حول مستقبل المسرح والصعوبات التي يواجهها الفنانون في هذه المدينة التي هي واحدة من أكثر مدن المنطقة العربية نبضًا بالثقافة. والتقينا بعدها عدة مرات صدفة بشارع الحمرا. فمثل هذه اللقاءات العابرة كانت آنذاك جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وكان من يذهب للتجوُّل فقط بشارع الحمراء لا بد وأن يلتقي هناك بصديق واحد على الأقل أو بأحد معارفه، ويتوقَّف بجوار مقهى أو مطعم أو مكتبة ليدردش معه قليلًا. وأحيانًا تتولَّد أثناء هذه اللقاءات العابرة الأفكار وتتحول شيئًا فشيئًا إلى مشروعات على أرض الواقع.
وفي عام ٢٠٢١ تحوَّلت بيروت إلى مدينة أشباح وصارت أمسيات أزقة الحمرا مظلمة وموحشة. إن ما توالى على بيروت من فترات حظر متتالية بسبب وباء الكورونا وأزمات، بدءًا من انهيار القطاع المصرفي ومرورًا بالأزمة الاقتصادية الحادة وعبثية الطبقة الحاكمة السياسية ووصولًا إلى انفجار مرفأ بيروت، قد استنزف الحياة من المدينة، فأصبح التحلي بالأمل أمرًا صعبًا على أهلها، والتشبُّث بالأحلام أصعب وأصعب.
ومع ذلك، وفي يوم من أيام الحظر الأخيرة التي فرضها وباء الكورونا، وبينما أنا أتصفح الأخبار والمنشورات على حسابي على الفايسبوك، استرعت انتباهي صورة لزاهر محاطًا بعشرات الجراء. بدا مسرورًا وهادئًا رغم كل ما يحدث. بل بدا أكثر سعادة مما كان عليه في الأيام الخوالي عندما كنَّا نلتقي في الحمرا. استرعت الصورة انتباهي وفضولي كثيرًا إلى أن علمت في نهاية المطاف أنه قد عاد مرة أخرى ليقيم في قريته الجميلة، بتلون، بجبل لبنان، وأنه يمضي وقته في عمل أكثر شيء يحبه، وهو المسرح؛ بينما يقوم في الوقت نفسه بتنفيذ أنشطة مستدامة في البلدة وتعزيز المشهد الثقافي والبيئي والفني.
في عام ٢٠٢١، قام زاهر ومجموعة من أصدقائه باستئجار مبنى قديم بجبل لبنان وترميمه وتحويله إلى مركز ثقافي باسم “بيت سرمدى” شعاره الحالي “من المونه عم نعمل فن”.
و”المونة” هو عادة من عادات الطهي اللبنانية التي لا تزال تُمَارَس في معظم القرى اللبنانية حتى يومنا هذا. حيث يقوم أهل القرى بإعداد وتخزين بعض المنتجات الغذائية (الفاكهة والخضروات ومنتجات الألبان واللحوم) بينما لا تزال المحاصيل طازجة خلال فصل الصيف من كل عام ليتم استهلاكها خلال الشتاء التالي. وكلمة “المون” هي كلمة مُشتَقَّة من فعل “منا” في اللغة العربية بمعنى “يُخزِّن”.
إن أكثر ما جذب اهتمامي في فكرتهم هو أنها تجمع بين قطاعين نادرًا ما يتم الجمع بينهما في مشروع واحد: الطعام التقليدي والإنتاج المسرحي.
لقد جرت العادة على عرض المسرحيات في المدن أولًا وقبل أي شيء ثم عرض بعض منها في القرى فيما بعد. ولاحظ زاهر أن كثير من أصدقائه الفنانين (من ممثلين وراقصين وموسيقيين وغيرهم) يلتقون ويتعاونون في المدينة بينما يمكنهم إطلاق مشروعاتهم الفنية في المناطق الريفية، لاسيما وأن أبعد قرى جبل لبنان عن بيروت لا يستغرق الوصول إليها سوى ساعة واحدة بالسيارة. ولاحظ أيضًا أن سكان جبل لبنان يشتاقون للمسرح والفن، فقرر أن يسير عكس التيار السائد ويقدم العروض المسرحية في القرى أولًا ثم ينتقل بها إلى المدن.
ومن جهة أخرى، ازدادت شعبية عادة “المونة” في لبنان على مدى العقود القليلة الماضية باعتبارها مشروعًا تجاريًا. ورأى العديد من رواد الأعمال في هذا التقليد فرصة لتمكين سكان القرى وصغار المزارعين من خلال تسويق منتجاتهم وبيعها عبر التطبيقات والمواقع الإلكترونية أو في المتاجر الغذائية والمقاهي الفاخرة.
ولكن يبدو أن ما من حد قد فكَّر من قبل في إنتاج أعمال مسرحية من إيرادات بيع “المونة”. وهنا تكمن عبقرية المشروع، حيث إن ضمان استدامتهما كل على حدة أمر صعب، ولكنّ الجمع بينهما في نموذج تجاري واحد قد يساهم في استمرارية المشروعين من الناحية المالية.
البداية
انطلق المشروع في عام ٢٠١٩ وتمثَّلت فكرته المبدئية في إعادة المسرح إلى منطقة الشوف بجبل لبنان وسلَّط الضوء في دورته الأولى على الإنتاج المسرحي فقط. أجرى فريق سرمدى تجارب أداء على مدى ثلاثة أيام بالمكتبة العامة بـ بعقلين، وهي بلدة كبرى بمنطقة جبل الشوف. واندهش الفريق كثيرًا حين استقبل مئتيّ شخص من البلدان والقرى المجاورة لإجراء تجارب الأداء. وأكَّدت لهم هذه المشاركة الساحقة في تجارب الأداء أنهم على الطريق الصحيح وأن ما يفعلونه أمر بالغ الأهمية وضروري. وبعد انتهاء تجارب الأداء قام الفريق بتنظيم ورش عمل للتمثيل بالتعاون مع متطوعين محليين ودوليين من المتخصصين في مجال المسرح من أجل إنتاج عرض مسرحي. عُرِضَت المسرحية بالفعل في يوليو ٢٠١٩ وبيعت تذاكرها بالكامل على مدى عشرة عروض متتالية.
ولكن الأزمة الاقتصادية هلَّت على لبنان بحلول نهاية ٢٠١٩ وبات التساؤل ملحًا حول كيفية مواصلة المشروع. وفي عام ٢٠٢٠ دفعت أزمة وباء كورونا اللبنانيين لقضاء وقت أطول في قراهم وهو ما ساعد الفريق على اتخاذ قرار بالاستمرار والعثور على مصادر دخل غير تقليدية. ومن هنا تولَّدت فكرة إنشاء مساحة في جبل لبنان لاستضافة كافة الفعاليات والأنشطة. كما دفعتهم شدة الأزمة الاقتصادية للتفكير في خلق حلقة إنتاجية اقتصادية مستدامة.
بيت سرمدى
كان فريق “سرمدى” على دراية بالمنطقة وبالتالي على علم بوجود بيت مهجور عند تقاطع عدة مسارات تجوال، بل ويعرفون من هو مالكه. بُني البيت في أوائل القرن العشرين وكان في السابق مدرسة حكومية ومبنى بلدية. أبدى المالك، الذي كان من سكان المنطقة، استعداده لتأجير البيت لهم مقابل مبلغ مناسب، فقاموا بالفعل باستئجاره وبدأوا في إصلاحه بأيديهم وبدون تمويل أو دعم خارجي سوى من أصدقاهم ومن سكان البلدة.
ثم بدأت رحلة البحث عن اسم تتجسَّد من خلاله كل عناصر المشروع. وبما أن الثقافة والفن والطبيعة جميعها مفاهيم خالدة لا يمكن للزمن أن يقيدها أو يحتويها، فقد بدا أن اسم “بيت سرمدى” هو الاسم المثالي لهذا المشروع.
ينقسم البيت إلى أربعة أقسام: حديقة قام فريق “سرمدى” بتحويلها إلى حديقة نباتية تُعرَض فيها كافة النباتات والبذور التي تنمو عادة في منطقة جبل الشوف مع بيان فوائدها الصحية؛ وقاعة رئيسية مخصصة لعرض وبيع منتجات “المونة” الخاصة بالمشروع؛ وغرفة متعددة الأغراض تُجرى فيها البروڤات وتُقام فيها ورش العمل والاجتماعات البرامجية وأخيرًا فناء خلفي جرى تحويله إلى ساحة مفتوحة في الهواء الطلق ليلتقي فيها الزوار أو من أجل العمل والمذاكرة.
وفي إطار مساهمته في مواجهة الأزمات التي أصابت لبنان على عدة مستويات سرعان ما تحوَّل مشروع “بيت سرمدى” إلى نقطة محورية تتوافر فيها العديد من الأنشطة، جميعها ذو تأثير اجتماعي واقتصادي مباشر ويتم إتاحته للسكان المحليين والزوار دون مقابل.
وامتد نشاط المشروع ليشمل إنتاج وعرض منتجات “المونة” المحلية وذلك في سبيل تشجيع صغار المزارعين وتمكين النساء من سكان المنطقة. يقوم فريق “سرمدى” بشراء منتجات عضوية من المزارعين المحليين وتوظيف النساء من أجل إعداد منتجات “المونة”.
ونظرًا لنشأة العديد من أعضاء فريق “سرمدى” في هذه المنطقة ودرايتهم بها وبالبيئة الطبيعية من حولهم، فلقد بدأوا في تنظيم رحلات تجوال في عطلات نهاية الأسبوع تبدأ وتنتهي عند “بيت سرمدى”. كما حرصوا على إقران كل رحلة بنشاط فني أو بيئي لجعلها أكثر جذبًا وتشويقًا، بحيث يتسنى للمشاركين الاستمتاع بالطبيعة والموسيقي، على سبيل المثال. وتأتي هذه الرحلات في وقت يعجز فيه معظم اللبنانيون عن السفر للخارج في العطلات وبالتالي يستعيضون عنه بالسياحة الداخلية.
وإسهامًا منه في تعزيز المهارات الفنية والتعبير الإبداعي لدى الشباب بدأ فريق “سرمدى” في تنظيم واستضافة ورش عمل ودورات تدريبية في التمثيل للأفراد من القرى المجاورة بـ “بيت سرمدى”.
وعلى الرغم من أن كافة أنشطة المشروع مجانية، إلا أنه يمكن للزوار والمشاركين في الأنشطة التطوع لدعم “بيت سرمدى” وبرامجه من خلال الشراء من منتجات “المونة” المتوفرة في البيت أو من خلال الحصول على قسيمة الدعم المتاحة بأسعار متفاوتة لتناسب جميع الدخول. تؤول الإيرادات المتأتية من أنشطة البيت إلى منتجي “المونة” المحليين وتُستَخدَم أيضًا في تمويل عروض المسرح الاحترافي القائمة كليًا على مواهب محلية شابة وممثلين محترفين من المنطقة.
يعمل فريق سرمدى حاليًا على إنتاج مسرحيته الثانية المقرر عرضها في مسرح مدرج قديم بـ بتلون في الفترة بين ١٠ و١٢ أغسطس ٢٠٢١.
نموذج حلقي
في “بيت سرمدى” تُنتج العروض المسرحية من إيرادات “المونة”. طالما ظننا أنه لا يمكن الجمع بين نشاطين متباينين كالمونة والمسرح، ورغم ذلك نجحا معًا في خلق نموذج حلقي رائع.
كنَّا نعيش، حتى هذه اللحظة، في عالم منقسم؛ انقسمت فيه حتى الفنون والثقافة إلى قديم وحديث وريفي وحضري، ونميل إلى الاعتقاد بأن الفن مفهوم حضريّ بالضرورة وأن المناطق الريفية أرضًا خصبة للعادات والتقاليد فقط. إن جمال مشروع “بيت سرمدى” يكمن في نجاحه في خلق ساحة تنهار فيها الانقسامات أمام نموذج حلقي إنتاجي يحترم دورات الطبيعة وينصت إليها ويتزامن معها، وهو ما يخلق مساحة من السكينة والإنتاجية والإبداع وسط كل هذه الكوارث.
بعدسة زاهر قيس: حق النشر بيت سرمدى