بقلم سازان مـ. مندلاوي، منسقة ومُدَوِنة شغوفة في طريقها للحصول على درجة الدكتوراه في مجال التعليم. تسلِّط الضوء في مدوناتها على المشهد الثقافي والإبداعي بإقليم كردستان بالعراق.
بالطابق الثاني من أحد المباني الحديثة بقلب العاصمة المتنامية إربيل، وحيث يبعد مركز التجارة العالمي خمس دقائق بالسيارة عن البيوت الطينية العتيقة، تجتمع مجموعة من المبدعات الكرديات في عشهن الإبداعي الصغير.
كنت من أشد المعجبين بأعمال راز زايدان من قبل أن أراها ببضع سنوات، ولم أكن حتى أعرف اسمها الحقيقي آنذاك، بل كنت أعرفها فقط باسم “The Darling Beast” أو “الوحش المحبوب” مثلي مثل كل الآخرين (وكنت دائمًا ما أتساءل عن السبب وراء هذه التسمية).
فمن هو الوحش المحبوب إذن؟ طرحت عليها هذا السؤال وأنا أتلفَّت حولي في انبهار بكل ما في ورشتها الفنية من تفاصيل. أجابتني بعفوية بينما تفتِّش في الصناديق بحثًا عن عينات من أحدث ابتكاراتها لتريني إياها: “الوحش المحبوب هو أنا!”
كانت ترتدي تيشيرت وچينز. لا أصدق كيف يمكن لملابس كاچوال عصرية أن تبدو أنيقة وراقية إلى هذا الحد. لاحظت أنها ترتدي مجموعة مألوفة من المجوهرات، بعضها لمصممين محليين ناشئين. تألقت راز جمالًا بشعرها الأسود الطويل وعيونها اللوزية وكان حضورها بمثابة تحفة فنية في حد ذاته. قدَّمت لي نفسها على أنها سويدية المولد لأبوين كرديين وأخبرتني أنها نشأت في جنوب لندن واتخذت في جنوب كردستان مقرًا لمشروعها الإبداعي القائم على التصوير والأرشفة والفن الرقمي والإخراج الإبداعي.
تجد كل ركن من أركان ورشتها ينبض بالثقافة. ذُهِلت، وتحمَّست في الوقت نفسه، من وجود مثل هذه البؤرة الثقافية الأصيلة في هذا الركن الحضاري العصري من المدينة.
رأيت ألوان قماش الحوري المختلفة (قماش كردي تراه في معظم الأحيان في ملابس وأوشحة النساء الكرديات الأكبر سنًا) معلَّقة في أحد أركان هذه الساحة الإبداعية، وعناصر من نفس هذا التصميم على الملصقات وورق التغليف والأشرطة داخل صناديق منتشرة في جميع أرجاء المكان، وكذلك في تصميم المنضدة التي كنتُ أدون عليها ملاحظاتي، والتي وددت لو وضعتها على لوحة إلهامي بموقع پينترست! إنها مصنوعة محليًا ولم يكن لديّ أدنى شك أن راز هي من رسمت عليها ونفَّذت تصميمها.
لاحظت أيضًا أن راز قد رسمت شعار مشروعها على هيئة وشم مصغر على ذراعها، ورأيت صورتها على “لوحة الإلهام” وهي تحمل كاميرا وتُجري مقابلة مع آخر أميرة كردية على قيد الحياة.
يا لها من مخاطرة أن تتخلى راز وظيفة بدوام كامل، من التاسعة صباحًا إلى الخامسة مساءً، لكي تسعى وراء شغف الإبداع، خاصة وأن صناعة الإبداع لم يعترف بها بعد على المستوى المحلي. أعرف أن هناك الكثيرين مثل راز، يتمتعون بموهبة الإبداع ولكنهم يذبلون وراء مكاتبهم اعتقادًا منهم بأن الإبداع لن يؤمِّن لهم قوت يومهم. وإن راز لتتفق معهم في هذا الرأي. فعندما سألتها عن وضع المبدعين هنا في البلاد، جاء ردها صريحًا وحادًا: “وضعهم مزرٍ!” فلقد بدأت راز في الإنفاق تدريجيًا من مدخراتها كي تسعى وراء شغفها، وترى أنه ليس من السهل أن تحظى أعمال المبدعين بالتقدير المنشود.
إن جذور راز الإبداعية راسخة في الخارج، ولكنّ انبهارها وإعجابها بالثقافة والهوية الكردية متجذر بعمق في نشأتها. فلقد أدركت راز أنها تتمتع بأفضلية عن غيرها من المبدعين المحليين لكون جمهورها من المغتربين والمحليين على حد سواء. وقد علَّقت راز على هذا الأمر قائلة: “أشعر أنني أبتكر ما أريده بحرية، وأنني في موقف يسمح لي بذلك، ولكني لا أشجع أية فتاة تأتي إلى ورشتي على اتباع نفس منهجي.”
ووصفت راز ورشتها الفنية بالملتقى الصغير، أو الكهف، الذي تجد فيه ملاذها كمبدعة. تلتقي مع المبدعات الأخريات وقت الاستراحة ليستمتعن معًا بكوب من القهوة. ولكن عملها لا يخلو في الوقت نفسه من الأزمات ويضطرها في بعض الأحيان للتعامل مع أسوأ الحرفيين. ورغم أنها قد أخذت على عاتقها أن أستعين بمنتجات السكان المحليين، إلا أنها تؤكد في الوقت نفسه أن الوصول إلى عمل احترافي عالي الجودة يستغرق وقتًا طويلًا.
وصفت راز فنها بالفن “الاستفزازي” الذي يسلِّط الضوء على الجانب الأمومي والصور الأرشيفية والهيئة الأنثوية. رأيت أعمالها الإبداعية معلَّقة بفخر داخل براويز متنوعة خلف طاولتها ومصباح كبير الحجم. ولاحظت أنها تهتم في جميع أعمالها بالتركيز على الأنثى، وليس وجهها، لتجسيد نساء من أصول مختلفة. وهو ما بررته قائلة: “لا يتعلق الأمر بمظهرنا، بل بما نسرده من قصص على مر أعمالنا.”
شعرت أن الأعمال الإبداعية المعلقة على الحائط خلف راز بمثابة تمجيد النساء الكرديات. وليس الحائط فقط، بل إن الورشة بأكملها تحتفي بالنساء المبدعات في كردستان. فلقد تأسست الورشة الفنية على يد صاحبة مشروع “Ya Khadija” (يا خديجة)؛ وهي مبدعة شابة وخبيرة في تسويق العلامات التجارية. وكرَّست كل منهما على اختلاف تخصصاتهما ساحة إبداع لها داخل الورشة. وانضمت إليهما شابة كردية أخرى لديها شركة ناشئة قائمة على تصميم الحقائب القماش.
تتدرب لدى راز فتاتان مبدعتان في إطار الفرص التي يوفرها مشروعها لتدريب ذوي المواهب الإبداعية من الشباب. وقبل بدء المقابلة رأيتها توجِّه إحدى متدرباتها وتنصحها برفق من أجل جلسة تصوير قادمة. وتأكدت عندئذ أن هذه الورشة الفنية ما هي إلا ملتقى آمن للدعم والتشجيع المتبادل بين المبدعين.
وقد أثمر أحدث تعاون بين مشروع “يا خديجة” ومشروع “دارلينج بيست” عن جلسة تصوير بعنوان “Rebirth” (الانبعاث)، أثارت عند الكشف عنها ضجة واسعة بين متابعي مواقع التواصل الاجتماعي من المحليين. أبهرت تصاوير النساء المشاهدين بجرأتها وانطلاقها. ويمكن للمرء أن يستشعر لمسة راز في كل صورة من صورها. تمثَّل الهدف من المشروع في إعداد جلسة تصوير جماعية يُسلَّط فيها الضوء على المرأة الكردية وتُجَسَد فيها بمختلف وجوهها. وجاءت الصور مختلفة تمامًا عن الصور النمطية المعهودة لنساء كردستان.
وخلال حديثنا عن مشروع “الانبعاث” وعن تصوير النساء أيَّدت راز فكرة المشروع قائلة: “لِمَ لا نرى زارا من باكستان متزوجة من عراقيّ وقد تقبَّلت إقامتها في هذا الوطن واندمجت في المجتمع المحلي؟ كل امرأة لها قصة خاصة بها؛ الإفريقية والعراقية والبابلية. جئن جميعًا من أنحاء متفرقة من هذه المنطقة التي منحتهن أهمية بالغة في هذه القضية. جسَّد المشروع الأشورية والكلدانية والتركمانية؛ اثنتا عشرة امرأة من خلفيات مختلفة وهويات مختلطة. جميعهن يعيش هنا؛ في كردستان العراق؛ وتخوض كل منهن رحلتها الخاصة وتتخذ من هذا المكان وطن لها.”
ترى شعار “دارلينج بيست” في معظم الأحيان جنبًا إلى جنب مع شعار آخر أو موهبة محلية أو مبدع أو شركة ناشئة. فلقد قدَّم المشروع للمبدعين والشركات الناشئة ثقافة جديدة، وأصبح للتعاون. فهو على التعاون السلعي مع غيره من الشركات الناشئة والمبدعين من ضمن مصادر دخله. ورأيت بالفعل في ورشة راز أكوامًا من دفاتر الملاحظات المرصوصة بعناية، وكذلك عينات من التيشيرتات ورزم من الملصقات المقرر بيعها على شبكة الإنترنت؛ ولاحظت أن جميعها يسلِّط الضوء على قوة المرأة وصوتها.
إن اختيار راز لاسم المشروع، “دارلينج بيست” أو “الوحش المحبوب”، كان الهدف منه الإشارة إلى الهوية الهجينة وتسليط الضوء على الجوانب المتناقضة: كالعدوانية والضعف، والرقة والصلابة، والفن المادي والرقمي. تمتزج في أعمال راز، وفي شخصيتها أيضًا، المفاهيم المتباينة، وترى فيها أيضًا شعلة إبداعية من الأمل في مجتمع لازال بحاجة للترحيب بالمبدعين وتقديرهم. ولكن راز تؤكد أن كل هذا يتحقق بالاجتهاد والتفاني في العمل، وأن من ينشأ في الطبقة العاملة يتعلَّم تلقائيًا أن عليه السعي بنفسه للحصول على ما يريد لأن ما من أحد آخر سيمنحه إياه. ومن هذا المنطلق، تسعى راز في ورشتها يوميًا إلى استغلال موهبتها في الإبداع في سبيل بناء مسيرة مهنية في مجتمع لازال بحاجة لتقدير المبدعين.
حقوق نشر الصور: ذا دارلينج بيست