بقلم: چنى العبيديين، راقصة وكاتبة وناشرة مستقلة مقيمة في بيروت بلبنان
قرأت منذ بضعة أسابيع قصة قصيرة ممتعة للكاتب والصحفي المخضرم سمير عطا الله بجريدة الشرق الأوسط. يحكي الكاتب في مقاله قصة الفتاة اليتيمة فاطمة التي ولدت في طرابلس بلبنان وترعرعت في مصر بمدينة الإسكندرية لتصبح واحدة من أبرز الفنانات المسرحيات بحي الفجالة بالقاهرة في أوائل عشرينيات القرن الماضي. اشتهرت فاطمة في الساحة الفنية باسم “روز” ولُقِّبوها بـ ’سارة برنار الشرق‘، إلا أنها نجحت فيما بعد في اكتساب مكانة بارزة بين النساء اللواتي اتجهن إلى إصدار المجلات في المنطقة العربية.
كتب عطا الله في مقاله: “تروي روز في مذكراتها أنها كانت في مقهى في أحد الشوارع المتفرعة عن شارع عماد الدين مع زوجها زكي طليمات وبعض الأصدقاء، يتحدثون في إسفاف المجلات الفنية، عندما وُلدت فكرة إصدار مجلة راقية في هذا الحقل. واقترح زكي ’الأدب الرفيع‘ اسماً للمجلة. واقترح الآخرون اسم ’الأمل‘. وصرفت فاطمة جميع الاقتراحات: سوف يكون اسمها ’روز اليوسف‘. ولتنسَ مصر أنها قادمة من الفقر وحي «الفجالة» الشعبي…”.
إن ما يتمتع به أسلوب عطا الله من بلاغة جعلني أتمنى لو أن لدي آلة زمنية لأعود بها هذا العصر وهذا المكان وأقف قبالة الطاولة التي شهدت هذا الحوار وأشبع عيني وجميع حواسي من هذا المشهد. أو ربما أجلس على كرسيّ قريب لأنصت لهذه المحادثة التي قادت روز اليوسف لاتخاذ قرار نشر المجلة الذي غير حياتها.
وبانطلاق مجلة روز اليوسف تغيَّر مشهد الصحافة الفنية في هذا العصر كما كان متوقعًا. تميَّزت بأسلوب يمزج بين الذكاء والجدية وخفة الدم واقتصرت في البداية على المحتوى الثقافية والأدبي ثم سرعان ما تأثرت بالسياسية
المجلات هي منافذ إعلامية، سواء قدمت محتوى سياسي أو اجتماعي أو تعليمي أو ترفيهي. ليس هذا فقط، بل هي بالأحرى، وطالما كانت منافض إبداعية. وكانت روز اليوسف شخصًا مبدعًا اتخذ خطوة نحو تغيير وضع قائم غير مرضٍ. واستطاعت أن تبتكر أداة ديناميكية مثيرة للمشاعر خلَّصت المشهد الفني من هيمنة السرد التي أحاطت به في ذلك الوقت.
والمثير للاهتمام في هذا الصدد هو أن روز اليوسف ليست أول امرأة تُصدِر مجلة في المنطقة العربية. بل يعود هذا اللقب لـ هند نوفل، التي وُلِدت أيضًا في طرابلس بلبنان وهي من أصدرت مجلة الفتاة في مصر بمدينة الإسكندرية عام ١٨٩٢ وتعتبر أول مجلة نسوية في المنطقة. ونجحت المجلة من خلال رسائل القراء في خلق مساحة لمناقشة دور المرأة في المجتمع معهم، وسلَّطت الضوء على النساء من خلال الكلمة المطبوعة. لا شك أن مجلة الفتاة كانت مجلة طليعية ورائدة عربية في هذا المجال، وهو ما يشير من جهة أخرى إلى دور المجلات المبكر كساحات تمرُّد.
فالمجلات المطبوعة مثيرة للجدل، وغالبًا ما تولد من أجل زعزعة عرف قائمة وفتح نافذة على منظور جديد أو تمهيد الطريق لحركة جديدة
ساد الاعتقاد بأن الإصدارات المطبوعة ستندثر مع بداية العصر الرقمي بإمكاناته اللانهائية. إلا أن المجلات المطبوعة تحدت هذا التنبؤ، ومرت بدلًا من ذلك بمرحلة تحوُّل اتخذت فيها تصميمًا جديدًا ليتسنى لها ركوب موجة العصر الرقمي بخفة وأناقة.
ولكن السبب الرئيسي وراء صمود المجلات المطبوعة هو دعم القراء. إذ يُصمم محتواها بحيث يتسنى للقارئ الاستمتاع به وتذوقه على مهل بدلًا من التهامه على عجل، كما هو الحال مع المقالات الإخبارية. كما أن حمل القارئ لغرض مادي ملموس بين يديه يمنحه تجربة شخصية من الصعب الاستعاضة عنها ببرودة الهواتف والأجهزة اللوحية.
وجاء العصر الرقمي ليسلط الضوء على تصميم الجرافيك كشكل من أشكال الفنون وذلك بعد تهميشه في مجال نشر المجلات. طالما كان تصميم الغلاف والصور وهوية المجلة المرئية من العوامل المؤثرة في نجاح المجلة، ولكنّ الأولوية كانت للمحتوى. إلا أن تضاعف حجم المحتوى المقدم من خلال وسائل الإعلام الرقمية سلَّط الضوء على أهمية التصميم الفني وحرفة الطباعة. وكما حدث في صناعة السينما، أصبحت صناعة نشر المجلات صناعة متكاملة يساهم فيها كل تفصيل صغير بالتساوي في نجاح المشروع ككل.
وتكمن القيمة الحقيقية للمجلات في كونها أدوات مواكبة وسابقة لعصرها، تلتقط اللحظات والمشاهد وتخلدها. ويحضرني هنا مصطلح فرنسي أعتز به كثيرًا، “L’air du temps”، بمعنى “روح العصر”. طالما ظننت أنه يعبر عن خلاصة زمن بالكامل استُخلِصَت جماعيًا في لحظة تاريخية محددة. فبقراءة كتاب “كائن لا تحتمل خفته” (العنوان الأصلي: “The Unbearable Lightness of Being”)، على سبيل المثال، يتسنى للقارئ اختبار شعور الحياة في براج عام ١٩٦٨. أي أن القارئ يستقي “روح العصر” في الأدب من خلال عيون كاتب واحد في كل مرة، وفي المجلات، عبر عيون مجموعة من الكتاب والفنانين. ولأن المجلات مجرد دوريات تدوم لسنوات طويلة، فإنه يمكن للمرء أن يراقب مراحل تحوُّل الثقافة مع مرور الزمن عبر تطور المجلات.
وعلى الرغم من أن صناعة نشر المجلات تعد فنًا في المقام الأول، إلا أنها في الوقت نفسه مشروع تجاري. وهي كتجارة لا تقل صعوبة عن أي شكل آخر من أشكال الفنون، بل وتواجه تحديًا إضافيًا يتمثل في عدم الاعتراف بها بشكل كامل بعد كشكل فني أو منفذ إخبارية. ولذلك، نادرًا ما يتم دعمها ماديًا عبر المؤسسات الفنية أو المنح الصحفية. ونظرًا لاندثار نموذج المشروعات القائم على الإعلانات، الذي تدين له المجلات بصمودها على مدى عقود طويلة قبل العصر الرقمي، فإن صناع المجلات اليوم يكادون يعتمدون حصريًا على قرائهم لتحقيق الاستدامة المالية.
يعتمد نموذج المشروعات الجديد على اعتبار كل عدد مطبوع أداة مستقلة قائمة بذاتها، ككتب الفنون. ولتسليط الضوء على هذا التفرد يتجه كثير من القائمين على إصدار المجلات المستقلة إلى تصنيف أعدادهم بحسب موضوع معين مما يخلق نسق يربط الأعداد بالمجموعة ككل.
بالإضافة إلى ذلك، لم تعد الدوريات المستقلة مرتبطة بجدول طباعة صارم. نظرًا لاعتماد الناشرين المستقلين في المقام الأول على جماهيرهم، فإن طباعة عدد جديد يعتمد على مدى نجاح العدد السابق له في الأسواق.
لا شك أن النموذج الجديد لنشر المجلات متقلب ومخيف، ولكنه لا يخلو في الوقت نفسه من بعض المميزات. فلقد أصبح بإمكان الفنان تنفيذ تصوراته دون تقييد، والاستمتاع في الوقت نفسه بشعور الرضا الذي يمنحه إياه التعرف بشكل مباشر على ردود أفعال الجماهير على الرسالة التي قدمها. كما يتسنى له في خضم هذه العولمة المشبعة بالمحتوى خلق مجتمع عالمي متناهي الصغر، لا تُملى فيه القواعد من قبل المؤسسات ذات النفوذ أو وسائل الإعلام الجماهيرية أو التيارات السائدة في عالم الفن المعاصر. فتبقى نظرياته ومقترحته محتفظة بفرادتها وأصالتها دون تغيير ويظل بالتالي صادقًا مع نفسه.
وفي لبنان، ازدهر نموذج النشر الجديد منذ أوائل القرن الحادي والعشرين. وبدأت الإصدارات تظهر على أرفف مراكز البيع باللغة العربية والإنجليزية وغيرها من الإصدارات ثنائية وثلاثية اللغات.
أسلط فيما يلي الضوء على ثلاث مجلات من بين مجموعة كبيرة من الإصدارات المؤثرة، لأوضح لكم كيفية نشأة المجلات المستقلة وطبيعة الرؤى والطاقات التي تحركها.
مجلة ذي آوتپوست The Outpost هي واحدة من أوائل المجلات العربية التي تبنت نموذج النشر الجديد في لبنان. نشأت المجلة في عام ٢٠١٢ بينما كان الربيع العربي لا يزال ربيعًا وفي فترة آمن فيه الشباب بأن المستقبل يحمل لهم وعودًا لانهائية ببدايات جديدة. عكست المجلة روح هذا الجيل المفعم بالأمل والذي تجرأ على الحلم برؤية جديدة شبيهة به للعالم العربي. وأصبحت ذي آوتپوست بجرأتها وإبداعها رمزًا لأحلام جيل بالكامل. وبعدها بسبع سنوات قررت المجلة التخلي عن الإصدارات المطبوعة واتجهت بسمو ووعي إلى رقمنة أرشيفها لإتاحته على شبكة الإنترنت مجانًا من أجل الأجيال القادمة.
وفي عام ٢٠١٧ وُلدت مجلة كولد كاتس Cold Cuts. وبينما تتخذ مجلة آوتپوست نظرة المستقبلية، نجد مجلة كولد كاتس متجذرة في الزمن الراهن بمنطقة الشرق الأوسط الذي يستمر في إنكار المثلية حقها في الوجود. إن وصف الشجاعة ليس بكافٍ لوصف مجلة مرئية تستعرض ثقافة المثلية في الشرق الأوسط. رغم كونها محاطة ببيئة اجتماعية لا تزال تتخذ موقفًا عدائيًا إزاء الخطاب الجنسي إلا أنها شقت طريقها بقوة قناعات ناشرها إلى المطبعة.
أما مجلة آ دانس ماج A Dance Mag، فهي مجلة مستقلة أقوم بإصدارها بنفسي. في عام ٢٠١٨ وبعد عامين من تخلي مجلة ذي آوتپوست عن الإصدارات المطبوعة، تعاونت مع ناشرها، إبراهيم نعمة، لإفساح المجال أمام سرد جديد يتعدى الحدود والانتماءات الجغرافية. تقدس مجلة آ دانس ماج الحركة باعتبارها جانبًا جوهريًا يتوقف وجودنا عليه، ولعلها أول محاولة على الإطلاق لتفنيد خرافة “التجذر” البشري واستعادة دور الحركة باعتبارها جانبًا أساسيًا من جوانب الحياة. كما أنها تحرر “الرقص” من وصف “الأداء”، وتعيده للناس مرة أخرى من خلال تسليط الضوء على دوره المذهل في حياتنا اليومية.
يوجد في لبنان عدد هائل من المجلات المستقلة المطبوعة. وكل منها له صوته المميز ورسالته الفريدة. معظم هذه المجلات يوفر للقراء مقتطفات مختارة من محتواه على موقعه الإلكترونية. فيما يلي عناوين لمجلات أخرى إن أردت معرفة المزيد عن مشهد نشر المجلات في لبنان:
مجلة بدايات Bidayat – إصدار عربي فكري وثقافي ربع سنوي، يهدف إلى تقديم إسهامًا كبيرًا في نضال المجتمعات العربية المستمر في سبيل تقرير المصير والمواطنة والديمقراطية والعلمانية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية.
ذي كارتن The Carton – مجلة باللغة الإنجليزية تثير مناقشات حول ثقافة الطعام والشرق الأوسط.
السمندل كوميكس Samandal Comics – مجلة تصدر بثلاث لغات تهدف إلى تطوير فن الكوميكس في لبنان.
جورنال سفر Journal Safar – مجلة نصف سنوية تصدر بلغتين تهدف إلى معالجة ندرة الكتابات النقدية حول التصميم في دول الجنوب.
مجلة فَمْ Rusted Radishes – دورية فنية وأدبية مطبوعة وإلكترونية تخلق مساحة للكتاب الصاعدين والمخضرمين ممن لهم صلة بلبنان.
حقوق النشر: چنى العبيديين