طائر الفينيق الزجاجي: قلائد وقوارير من شظايا انفجار مرفأ بيروت

بقلم: چنى العبيديين، راقصة وكاتبة وناشرة مستقلة مقيمة في بيروت بلبنان.

قلائد هي لي

كلمة HYALĪ هي كلمة لاتينية تعني زجاج. اكتشفت تلك المعلومة المثيرة للاهتمام عندما رأيت مجموعة “قلائد هي لي”. وكان لاسم هذه العلامة التجارية أثر مباشر في نفسي، فما سمعته حتى تردد صوت فيروز في رأسي وهي تتغنى بكلمات أغنية “هي لي” مهدية إياها إلى بيروت.

صُنِعَت قلائد HYALĪ من شظايا زجاج انفجار مرفأ بيروت في إطار مبادرة للثنائي ڤاليري نصير وراني الرچي، تهدف إلى جمع تبرعات من أجل دعم الضحايا وجهود إعادة الإعمار. ڤاليري نصير، هي شريكة ومديرة فنية بإستوديو ماتش ديزاين Match Design House، وهو إستوديو تصميم متعدد التخصصات، وشريكها، راني الرچي، هو مهندس معماري وراوي قصص عن التخطيط العمراني وأحد الشركاء المؤسسين لبار برازافيل وإستوديو بيروت.

استرجعت ڤاليري ظروف نشأة الفكرة وراء المبادرة، وقالت: “كنَّا نستعد بالفعل لافتتاح منفذ للوجبات المجانية ببار برازافيل حين هزّ مرفأ بيروت الانفجار المزدوج. وكانت الأموال قد بدأت تتدفق بالفعل في المشروع من خلال شبكاتنا في لبنان وأوروبا، إلا أن احتياجات الناس بعد الانفجار فاقت حدود الطعام. ولذلك، فكرنا في صناعة منتج من شأنه أن يضفي، على المدى البعيد، قدر أكبر من الاستدامة على مبادرة التمويل، وأن يعبِّر لداعمينا الكرام عن امتناننا. وهكذا تولَّدت الفكرة وراء مجموعة هي لي HYALÎ.”

تم تصميم وتنفيذ مجموعة القلائد بالتعاون مع فنانة الزجاج، لمى شوقي، وفي ورشتها الفنية في عكار بشمال لبنان، حيث تعكف منذ عام ٢٠١٧ على إعادة تدوير نفايات الزجاج وتحويلها إلى حلي وزينة.

بلونها الشفاف وما يتخللها أحيانًا من صفرة، يليق تصميم القلائد المتقن باسمها المعبِّر. وعلى الرغم من أن الشكل الصخري للزجاج يشبه من بعيد قطع أثرية من العصر الحجري، إلا أن ما تتخذه القلائد من وضعية رأسية أنيقة، يعيد إلى أذهاننا صور راقصات الباليه اللواتي يبرزن من بين الحشود.

وحدَّثتنا ڤاليري عن اختيار هذا التصميم تحديدًا قائلة: “تعمَّدنا تصميم القلادة، بحيث تحيط بشظايا غير مصقولة من الزجاج. وقد أثار هذا التصميم بعض الجدل هنا، في بيروت، ربما لأن الناس لم يكونوا مستعدين بعد لرؤية شيء يذكرهم بانفجار المرفأ.”

ففي قلادة “هي لي” يمتزج الزجاج الأملس بالخشن، تعبيرًا عما في بيروت من تناقض وتاريخ ورقيّ.

نفخ الزجاج – فن عتيق وحرفة

لا شك أن الزجاج الطبيعي كان يُستَخَدم منذ العصر الحجري، إلا أن ثمة أدلة تاريخية تثبت أن الزجاج كان يُصنَّع أيضًا، ويُستَخدَم في السامرة ومصر قبل ٤٠٠٠ من الميلاد تقريبًا. وعلى سواحل البحر المتوسط؛ فيما يُعرَف الآن بلبنان سوريا وفلسطين وقبرص، اخترع الفينيقيون تقنية نفخ الزجاج في حوالي عام ٥٠ ق. م.

استُخدِم الزجاج في البداية في صناعة الحلي والزينة غير الشفافة، كالأساور والقلائد، ثم شقت تقنية نفخ الزجاج طريقها لتُصبِح الحرفة المستخدمة في صناعة الأغراض المنزلية، كالكؤوس والمزهريات والأباريق وغيرها من السلع.

ويُقال إنه كان من المفترض إبقاء تقنيات صناعة الزجاج سرية، وأن من يكشف عنها كان مصيره الموت.

ولا يزال نفخ الزجاج حرفة تقليدية تتوارثها الأجيال في لبنان حتى يومنا هذا، وهذا هو سبب انحصارها في التجارات العائلية فقط، في معظم الأحيان. ولكنّ المصانع الكبرى تدفع بهذه الحرفة نحو الانقراض. فقد أغلقت معظم مصانع نفخ الزجاج أبوابها في لبنان، فيما عدا مصنعين فقط. أحدهما، في قرية صرفند، جنوب لبنان، يديره آل خليفة، والآخر، في منطقة البداوي بطرابلس، شمال لبنان، يديره عبد الحميد القبيطري، الذي تعلَّم الحرفة من جده، ولكنه لا يرغب، بكل أسف، في توريثها لأبنائه بسبب شراسة المنافسة في السوق.

قوارير وأباريق زياد أبي شاكر

إن شظايا الزجاج التي استُخدِمَت في صناعة حلي “هي لي”، تم جمعها في البداية في إطار مبادرة أخرى يقودها زياد أبي شاكر بالتعاون مع العديد من منظمات المجتمع المدني والمتطوعين من المواطنين. وتمثَّل الهدف من المبادرة في جمع وإعادة تدوير أكبر كمّ ممكن من حطام الزجاج التي خلفها انفجار المرفأ، وتوفير طلبيات لمصانع الزجاج المتعثرة.

إلا أن نسبة التلوث العالية هي التي حالت دون إعادة تدوير واستخدام الجزء الأكبر من حطام الزجاج الذي تم جمعه. أما الزجاج الذي تحطَّم داخل البيوت، فقد تم جمعه عند الأبواب من قبل متطوعين ونقله على شاحنتين، تم استئجارهما من قبل أبي شاكر، إلى مصنعيّ الزجاج، في صرفند والبداوي، من أجل إذابته وتحويله إلى أباريق وقوارير مياه، وبيعه في أسواق المزارعين المحليين.

زياد أبي شاكر هو مهندس صناعي، ومؤسس شركة سيدار البيئية ذ.م.م. Cedar Environmental LLC المتخصصة في بناء مرافق إعادة التدوير التابعة للبلديات على مستوى المجتمع المحلي، والمناهضة لتوجهات إعادة التدوير في مصنع مركزي ضخم. فهي شركة هندسية بيئية، تهدف إلى إنشاء مصانع إعادة التدوير من أجل إنتاج أسمدة عضوية معتمدة، لا تخلِّف نفايات، بل تعيد تدويرها في منتجات جديدة لاستخدامها مرة أخرى. وهذا هو هدف أبي شاكر المنشود؛ القضاء تمامًا على المخلفات في لبنان، والوصول بها إلى ’صفر نفايات‘.

ربما تكون أسطورة “الفينيق المنبعث من الرماد” هي أكثر أسطورة ذات مغزى بالنسبة للشعب اللبناني. لا يزال هذا الشعب متشبثًا بقصة ذلك الطائر الرائع الذي عاش ٥٠٠ عام، ثم بنى عشًا من النباتات العطرية وأشعل النار في نفسه حتى لقي حتفه. لكنه لم يلبث أن نهض مرة أخرى من رماده، ويبدأ دورة حياة جديدة.

ويبدو أن قصة الفينيق قد لخِّصت بمضمونها الرمزي تاريخ لبنان تلخيصًا شاملًا. فهذه الأرض، قد احترقت عن بكرة أبيها لعدة مرات على مدار تاريخها، إلا أنها دائمًا ما تنهض مرة أخرى كطائر الفينيق، وتعود للحياة أكثر صلابة وإشراقًا.

إن كل من هذين المشروعين له رسالة صريحة ومباشرة: الظلام والموت والدمار لن يهزمنا. سننهض مرة أخرى من الرماد كطائر الفينيق، أكثر إصرارًا على بدء الحياة من جديد وإعادة إعمار مدينتنا وإيجاد الجمال حيث لم يبق منه شيئًا.

تم التقاط الصور من قبل ڤاليري نصير، حقوق النشر HYALĪ

© فاليري نصير/هي لي