بقلم سازان مـ. مندلاوي، منسقة ومُدَوِنة شغوفة في طريقها للحصول على درجة الدكتوراه في مجال التعليم. تسلِّط الضوء في مدوناتها على المشهد الثقافي والإبداعي بإقليم كردستان بالعراق.
من الناس من يثير إعجابك بنجاحه الجدير بالإشادة، ومنهم المجد والكادح، ومنهم من يرث شهرته وسمعته الطيبة، ومنهم من يجذب الناس بجماله. كن، ماذا لو أن هناك شخص يجمع بين كل هذه الصفات؟ إنها تثير إعجاب القريبين منها بجمالها وحضورها الملكيّ وشفافية قلبها، وتبهرهم بمواهبها وقدراتها الإبداعية، وتكسب احترامهم بمثابرتها وإصرارها على إبقاء ثقافتها حية.
روا چليزادة قبل أن تكون رائدة أعمال، فهي صديقة عزيزة. وهي واحدة من نساء إقليم كردستان العراق اللاتي يميزهن إصرارهن ومثابرتهن على نشر الوعي في مجتمعاتهن. وإن كل من يعرف روا عن قرب، يعرف أنها امرأة ذات قيم ومبادئ.
فكَّرت كثيرًا؛ كيف عساي أن أقدِّم لكم روا في هذا المقال؛ هل ككاتبة أم فنانة أم رائدة أعمال أم ناشطة اجتماعية أم صانعة محتوى أم أمّ؟ فهي كل هذا، وقبل أي شيء، نموذج يحتذى به في مجتمعنا المحلي. وعندما طلبت من روا أن تقدم نفسها، فاجأتني بإجابة مختلفة تمامًا، تجلَّت من خلالها بصورتها الحقيقية: “أنا ابنة محمد چليزادة وزوجة داستان وأم ماريا وشقيقة كل من رسان ومصطفى.”
هي من مواليد بغداد عام ١٩٩٠، وتنحدر أصولها من بلدة كويسنجق بكردستان، من سلالة طويلة من أبرز الأدباء. فالكتابة تسري في دماء عائلتها، على حد وصفها، وهي السبب في تعرُّفي عليها، تحديدًا التدوينة التي كتبتها أيام دراستها الجامعية. فلقد ورثت روا ملكة الكتابة عن جدها الأكبر، الذي هو من عظماء كردستان.
وقد حكت لي روا أن جدها الأكبر هو رجل الدين المُلَقَّب بـ “ميلاي جورا” الذي بنى أول مدرسة في إقليم كردستان، وأنه هو أول رجل كرديّ يرسل ابنته إلى مدرسة رغم ما تعرَّض له من انتقاد آنذاك. كانت تستمع منذ نعومة أظافرها إلى قصص عن جدها الأكبر على لسان أفراد أسرتها. أما جدتها، فكانت تكسب معيشتها من صنع المجوهرات وجمع التحف. وكانت خالتها تهوى الرسم بالألوان المائية. وبينما قصَّت لي روا حكايات من تاريخها العائلي، اتضح لي كيف ورثت صديقتي، متعددة المواهب، قدراتها ومهاراتها الإبداعية المتنوعة عن جدارة.
بدأت روا مسيرتها برسم اللوحات الزيتية، واستضافت أول معارضها الفنية في عام ٢٠١٦ وهو الذي وصفته في حديثها بـ “المعرض الذي لا يُنسى!”. إلا أن موهبة روا تجاوزت حدود الفن.
حدثتني روا عن تجاربها الأولى في عالم الكتابة قائلة: “نشأت منذ نعومة أظافري على صوت طقطقة آلة الكتابة الخاصة بأبي، وكنت أحيانًا ما أسكب الحبر في غرفة جدي المليئة بأكوام متربة من الأوراق المكتوبة، وألعب بالكتب المرصوصة في مكتبتنا القديمة، وأحدق في ذهول إلى صورها.” وبدأت روا الكتابة في سن المراهقة، وكانت تسلِّط الضوء في كتاباتها على الموضوعات ذات الصلة بالفتيات في كردستان. وبعدها بسنوات طويلة، نشرت روا كتابها الأول (كانت كتاباتها تصدُر قبل ذلك في إطار مؤلفات مشتركة أو متعددة الكتَّاب)، وأهدته لابنتها، ماريا، التي ألهمتها لتأليف قصة أطفال أسمتها “ماريا ومشكوكة” (فأر ماريا) تيمنًا بابنتها، ونشرتها في فترة افتقر فيه سوق الكتاب الكردي إلى قصص الأطفال الملونة.
وبصفتي صديقة لروا، أعرف أيضًا أنها انتهت بالفعل من كتابة رواية، وأنها ستصدُر في الوقت المناسب، إلا أنني لا أحدِّثها عن موهبتها الإبداعية في الكتابة، باعتبارها مشروعًا تجاريًا، لأنني أعرف تمام المعرفة أن الكتابة في مجتمعنا لا تؤمِّن، بأي حال من الأحوال، مصدر دخل يمكن الاعتماد عليه. لكنني معجبة بها، لأنها اختارت أن تسلك هذا الطريق، وتسعى وراء تحقيق شغفها وليس المكاسب المادية.
لكنّ أكثر ما يثير إعجابي بشخصيتها الصادقة، هو أنني شهدتها على مر السنين تتحدَّث صراحة عن نقاط ضعفها. وقفت على خشبة مسرح “مؤتمر التكنولوجيا والترفيه والتصميم في نيشتمان TEDxNishtiman“ وعبَّرت دون حرج عن حقيقة ما شعرت به عندما تركت الجامعة، وهي حفيدة أحد أعظم التربويين في بلادها. يشاهدها متابعوها وينصتون إليها ويتعلمون منها.
ولكنّ المحتوى الذي تقدمه روا على شبكة الإنترنت، لا يقتصر عليها هي فقط، بل تشارك متابعيها كذلك منشورات وفيديوهات عن أخيها رسان. أعرف شخصيًا أمهات كثيرين لديهم أطفال ذوي احتياجات خاصة يتابعون روا ورسان من أجل الحصول على جرعة من الأمل والتفاؤل. فهي تتحدث مع متابعيها بكل صراحة عما يكون عليه الأمر أن يكون لدى المرء شقيق مصاب بالتوحُّد والصرع، وهي من القضايا التي لا تزال محظورة في مجتمعنا المحلي. وهؤلاء المتابعين هم من أشادوا بها، وتابعوا رحلتها كرائدة أعمال عبر شبكة الإنترنت. فلقد أثَّرت في أرواح الكثير من السكان المحليين بإبداعها الأدبي، وأثَّرت في الثقافة المحلية بإبداعها الفني.
حكت لي روا أنها شعرت بغصة في قلبها حين لاحظت أن الملابس الكردية الملونة، التي نرتديها جميعًا ونعتز بها كثيرًا، ليست مصنوعة في كردستان، ولا تعكس تصميماتها وطُرُزها وألوانها الثقافة الكردية. وبعد كثير من الأبحاث، نجحت روا بالفعل في تغيير ذلك بإبداعها وعزيمتها، وبدأت في طباعة تصميماتها الفنية المستوحاة من الثقافة الكردية على المنسوجات المُستَخدَمة في صناعة الملابس الكردية، وأنشأت علامة تجارية باسم آر.چاي فابريكس R.J Fabrics. ومن على صفحتها على مواقع التواصل الاجتماعي، بدأت روا في بيع هذه المنسوجات لجمهورها، الذي طالما كان مُلهَمًا برحلتها التي شاركته إياها علنًا وبمنتهى الصراحة.
إلا أن ثمة تحديات كبرى تواجهها في هذا الصدد، من بينها ضخامة سوق المنسوجات. فبعد أن أطلقت روا مشروعها، انفتح السوق الصيني على إقليم كردستان العراق، وانخفضت أسعار المنسوجات، ثم اندلعت جائحة فيروس كورونا، وقلَّت الاحتفالات والمناسبات التي تقتضي ارتداء زي كرديّ تقليدي. ورغم ذلك، تجلَّت روعة المشروع، على حد وصف روا، في عثورها على جمهور يبحث عن قطع فريدة من نوعها. فتصميمات روا يتم إنتاجها بكميات محدودة وهي مستوحاة من الثقافة الكردية ومتاحة للشراء عبر الإنترنت فقط. وقد طبعت كثير من لوحاتها أيضًا على المنسوجات ذات الطابع الكردي.
تأمل روا، خلال الخمس سنوات القادمة، أن يتسنى لنا تعيين موظفين في مشروعها وأن يتم عرض تصميماتها في صالات العرض والڤترينات في جميع أنحاء كردستان. أما خلال العشر سنوات القادمة، فتتوقع أن يكون هناك تعاون بين علامة آر.چاي وغيرها من العلامات التجارية الشهيرة في الغرب في مجال الطباعة على المنسوجات، وأن يتم تصدير منتجاتها إلى الشرق والغرب.
إن عالم روا ليس عالمًا تتحكَّم فيه الماديات، وليس مربحًا، بقدر ما كنت أتمنى، ولكنّ هذه المرأة الكردية الشابة، ذات الأصابع الملونة والقلب المبدع والتفكير الصافي، استثمرت جهودًا كبيرة للحفاظ على الثقافة واللغة الكردية، واستغلَّت مواهبها الإبداعية في توعية الأطفال والكبار بكل الموضوعات والقضايا ذات الصلة بمجتمعنا المحلي، وعملت، فوق كل هذا، على نشر الوعي بين أفراد المجتمع. إنها قدوة بمعنى الكلمة.
حقوق نشر الصور: روا چليزادة
So proud of you my dearest