هل سمعت من قبل عن عصر الخيال؟ يبدو أنه هو العصر الذي سيخلف عصر تكنولوجيا المعلومات وفقًا لنظرية تنبأت بأن الاقتصاد العالمي سيشهد نقلة نوعية، يحل فيها الخيال والإبداع محل المعلومات والتكنولوجيا، ويتفوق فيها المنطق الإبداعي والذكاء العاطفي على التفكير التحليلي من حيث الأهمية. إلا أن المثير للاهتمام في هذا الصدد، هو أن هناك من يؤمن بأن عصر الخيال قد بدأ بالفعل. فقد لاحظ باحثون اقتصاديون أن المهن الإبداعية قد تفوَّقت على تلك ذات الصلة بالتكنولوجيا في بعض الأنماط الاقتصادية، وأن مجالات الهندسة المعمارية والتصميم والموسيقى والسينما والفنون الأدائية والألعاب الإلكترونية والكتابة والإعلام في طريقها لتصبح هي المساهم الرئيسي في القيمة الاقتصادية.
وإذا ثَبُتَت صحة هذه النظرية، فعلى قطاع الإبداع أن يستعد لاستقبال عصر الخيال بفهم أعمق واستيعاب فضل لوسائل ومهارات واصطلاحات ريادة الأعمال. ولذلك، أستعرض لكم في هذا المقال حواري مع الراقصة والمصممة ورائدة الأعمال، رومي أسود، التي نجحت في صهر كل طموحاتها وشغفها في كيان واحد؛ في مؤسسة يرقة. وهي مؤسسة اجتماعية ثقافية تهدف إلى تعزيز مهارات ريادة الأعمال للراقصين المحترفين في لبنان، وذلك بدعمهم من خلال المنتجات الإبداعية وحاضنات ريادة الأعمال وبرامج التطوير. وستساعدنا رومي في هذا الحوار على فك طلاسم بعض اصطلاحات ريادة الأعمال وتعرفنا من واقع خبرتها على أدوات ريادة الأعمال المفيدة للممارسين المبدعين.
أرى أنه من الصعب وصف الفن والثقافة بـ “المنتجات”. هلا أعطيتِنا أمثلة ملموسة لمنتجات ثقافية استحدثتها مؤسسة يرقة؟ وما هي الأسواق التي تناسب هذا النوع من المنتجات؟
منذ انطلاق مؤسسة يرقة في عام ٢٠١٤، قمنا باختبار وتجريب منتجات ثقافية بالتعاون مع راقصين محترفين وآخرين من خبراء هذا القطاع في مختبر حاضنة ريادة الأعمال التابعة للمؤسسة. فقد لاحظنا أن المبدعين في مجال الرقص يفتقرون إلى وجود ساحات استكشافية للتجارب الفنية والاستراتيجية، وليس إلى الإقامات الفنية. وأعلم من واقع خبرتي أن تحويل الأفكار إلى منتجات ثقافية قادرة على الوصول إلى الأسواق، يتطلب العثور على منتج مثالي يجمع بين ١) القيمة الفنية العالية، ٢) والإشادة الجماهيرية من قبل الفئة المستهدفة، و٣) الاستدامة بعيدة المدى. وإن عملية الإبداع المتمثلة في الاستكشاف الإستراتيجي لهي تجربة ممتعة لأقصى حد تنطوي على عدة مراحل، من بينها العصف الذهني وحل المشكلات بالاستناد إلى نهج التجربة والخطأ والتعاون مع جهات الدعم الفني المناسبة وتتطلب كذلك بيئة راعية للأعمال.
وقد نجحنا حتى الآن في إعداد وتنفيذ العديد من المنتجات الثقافية؛ من بينها آند سو وي موڤ؛ وهي سلسلة من ورش العمل المُقامة في الطبيعة، وآ سيتي إن موشن، وهي سلسلة من جولات أدائية عبر المدينة، إضافة إلى نصب فني اندماجي بعنوان توجِثِر وي واك، وفيلم الإثارة السيكولوجي لوپهول، وهو أحدث منتجاتنا الثقافية ولا يزال قيد التنفيذ.
أما مشروع جليمپسس أوف آ فيوتشر، فهو على الأرجح أبرز منتجاتنا الثقافية، وتم تصميمه وتجريبه في مختبر حاضنة الأعمال التابعة للمؤسسة بدعم من مؤسسة دروسوس. والمشروع عبارة عن مسلسل وثائقي من ثماني حلقات موجه نحو المهتمين بمجالات السينما والرقص والتأليف، ولكل من شعر بالحاجة أو بالضرورة لتغيير خطته المستقبلية بسبب الوباء العالمي وما فرضه من حالة من عدم الاستقرار. وقد لاقى العرض التجريبي لهذا المسلسل على مواقع التواصل الاجتماعي صدى رائعًا من قبل مختلف فئات الجمهور، كثير منهم ليسوا من متابعي الرقص عادة، إلا أنهم شعروا برغبة ملحة في مشاهدته لأن محتواه قد خاطب عقولهم على عدة مستويات. وهذه الإشادة دفعتنا لتجاوز حدود سوق فن الرقص واستهداف سوق الأفلام القصيرة المجمعة، ونجحنا بالفعل في إدراج المسلسل على شبكة نتفليكس الإقليمية والعالمية.
هذا مذهل! يبدو أن حل المشكلات من السمات والمهارات الأساسية في مجال ريادة الأعمال، كما سبق وأشرتِ. ولكن، ما أهمية أن يتحلى الفنانون والمبدعون بمهارة حل المشكلات، من وجهة نظركِ؟
أرى أن مفهوم حل المشكلات يختلف عندما يتعلق الأمر بالفنانين، ويتمثل، من وجهة نظري، في عملية التفكير في الجمهور المستهدف من قبل الفنانين وفي احتياجاته ورغباته، منذ المراحل الأولى لعملية الإبداع.
مع العلم أن عملية الإبداع لدى كثير من الفنانين تنبع من احتياجاتهم ورغباتهم الخاصة. وفي هذه الحالة، تجدهم يبحثون بالأحرى عن جمهور مناسب يشاركهم ذات الرغبات والاحتياجات، بدلًا من التركيز على معايير محددة للجمهور. بل إن التفاعل مع الجمهور على أساس استباقي من البداية من شأنه أن يكون مفيدًا، لأنه يعمل على توعية الفنان ويساعده على رؤية الأمور من منظور الجمهور.
ولكنّ المؤكد في جميع الأحوال هو أن وضع الفنان لفئة بعينها في عين الاعتبار منذ بداية عملية الإبداع يجنبه العمل في معزل عن الجمهور، ويساعده على تسييق عمله ويلفت نظره، في بعض الأحيان، إلى عقبات أو رؤى مثيرة للاهتمام ذات صلة بعملية الإبداع. كما أنه يصحح أو يؤكد له بعض افتراضاته المسبقة، لاسيما وأن عملية الإبداع تعتمد في النهاية اعتمادًا كبيرًا على حدس الفنانين.
والأهم من كل ذلك، هو أن هذه الممارسة تحرص على تضمين الجمهور منذ المراحل الأولى لصناعة المنتج الثقافي، وليس في المراحل الأخيرة، عندما يكون الوقت قد حان لإطلاق المنتج الإبداعي أو تسويقه. ففي هذه المراحل يمر كثير من الفنانين بفترة صعبة، إما بسبب الشعور بأن عملهم معرض للخطر أو لعجزهم عن الوصول للجمهور من الأساس. ولذلك، فإن مراعاة منظور الجمهور منذ المراحل المبكرة لعملية الإبداع، يزيد من فرص حضور الجمهور وتفاعله مع منتج الفنان عند إطلاقه، ويضمن للفنان تحقيق ما يسعى إليه من إشادة وتأثير وتعويض مادي.
في ضوء خبرتكِ في أنشطة ريادة الأعمال، هلا شرحتِ لنا بلغة دارجة مفهوم نموذج العمل التجاري، وكيف يمكن للفنانين والمبدعين الاستعانة بهذه الأداة في عملهم؟
أود التشديد في البداية على أن أهمية نماذج الأعمال التجارية، لا تقتصر على الكيانات والمؤسسات الربحية، بل وتمتد كذلك للفنانين من الأفراد وإلى المشروعات والمنتجات المستقلة. ومن هذا المنطلق تتمثل نمذجة الأعمال التجارية في مضاهاة العناصر المكونة للمشروع والتي يحتاج المهنيون للتفكير فيها لضمان الاستمرار في تقديم منتج ذي قيمة على المدى البعيد. وإن ما يعجبني شخصيًا في عملية نمذجة الأعمال هو أنها تسمح للمهنيين برؤية عملهم، أي مشروعاتهم التجارية، من منظور عام، وتجريب مختلف العناصر لحين الوصول إلى تركيبة مناسبة، أي إلى نموذج عمل مناسب. وهذا يتيح لهم الفرصة لتحقيق ما يسعون إليه من استدامة وتأثير وإشادة.
وفي قطاع فن الرقص، يركز معظم الفنانين جهودهم في البداية على خلفية المشروع (كالشركاء وفريق العمل والأنشطة والموارد والتكاليف)، وتصيبهم حالة من التوتر والذعر عندما يحين الوقت للتفكير في واجهة المشروع، كالجمهور المستهدف منه وسبل الوصول إليه وتنويع مصادر تغطية النفقات. إلا أن التركيز من البداية على خلفية وواجهة المشروع وما بينهما من علاقة تبادلية، يدفع الفنانين لاتخاذ قرارات مختلفة، لاسيما في الأمور ذات الصلة بخلفيات المشاريع. ومن شأن نمذجة الأعمال أن تسلط الضوء على هذه الديناميكية دون الحاجة إلى الخوض في تنسيقات أكثر تفصيلًا، كخطط الأعمال، ودون المساس بالنهج الاستراتيجي. والأكثر أهمية من ذلك، هو أن تلك الديناميكية تمكِّن الفنان من تصور الدورة المستدامة بين خلفية وواجهة المشروع، لضمان عدم استنفاد موارده البشرية أو التقنية أو المادية على مدار المشروع.
بمناسبة الحديث عن الموارد المالية والاستنفاد، أرى أن الشغف بالمشروعات يستحوذ على كثير من الفنانين إلى الحد الذي ينسيهم رفاهيتهم المادية. كيف يمكن للمبدع أن ينوِّع من مصادر إيراداته؟
على الرغم من أن الفنانين قد أبدعوا في العثور على مصادر تمويل تمكنهم من تغطية كافة تكاليف مشروعاتهم؛ سواء نقدية أو عينية، أو في صورة مساهمات مالية – كالمنح والرعاية التجارية والمساهمات الخيرية، أو تمويل ذاتي، إلا أنهم لم يحسنوا في المقابل استغلال مصادر الدخل وكذلك الإيرادات والعوائد المالية المرتبطة بالخدمات والمنتجات.
وفي أغلب الأحيان يتمتع الفنانون بمهارات وخبرات يغفلون عن قيمتها المحتملة لقطاعات وصناعات أخرى. ونتيجة لذلك، تفوتهم بدائل كثيرة من شأنها أن تدر عليهم نسبة أكبر من الدخل، والتي قد تتمثل في الوقوف على خدمات أو منتجات جديدة ذات قيمة محتملة، أو في إعادة تقييم نماذج تسعير منتجاتهم وخدماتهم القائمة، أو في استحداث منتجات جديدة – أي منتجات ثانوية – لمنتجاتهم وخدماتهم القائمة، أو حتى في دمج منتجات أو خدمات في إطار منتج جديد.
الشراكات وسبل التعاون
تعاونت مؤسسة يرقة مؤخرًا مع المجلس الثقافي البريطاني في لبنان في إطار برنامج “كاتاپلت بودي”. وقد ذكرتِ في نبذة البرنامج أنه يهدف إلى مساعدة الراقصين المحترفين على التكيف والارتقاء بمهاراتهم واختيار محيط ووسط مناسب لإعالة أنفسهم وفنونهم، وأنه يهدف كذلك إلى مساندتهم في تنمية شبكاتهم من الشركاء على مدر دورة حياة المنتجات وعبر الصناعات المختلفة. هلا أخبرتِنا بالمزيد عن البرنامج؟
إن وصول الراقصين المحترفين في لبنان إلى فرص جديدة للنمو والتطور بات حتميًا إزاء الأوضاع التي تسود البلاد في الوقت الراهن. وفي ضوء ما يطرأ على العالم من تغير سريع الوتيرة، أصبح من الضروري أن تتوافر لدى هؤلاء المبدعين مساحة تساعدهم على تصور طبيعة استدامة مشروعاتهم.
ولذلك، قمنا في ديسمبر من عام ٢٠٢١ بإطلاق هذا البرنامج جنبًا إلى جنب مع دراسة إلكترونية لا تزال قيد الإعداد. وإننا ندعو كل المحترفين الناشطين في لبنان (بغض النظر عن جنسيته) وكل اللبنانيين المقيمين خارج البلاد للمشاركة في هذه الدراسة التي من شأنها تقييم أوضاعهم الحالية ومساعدتهم في تحديد أسباب تعثرهم وميادين الخبرة التي يتعين عليهم اقتحامها من أجل النهوض بعملهم.
ولقد حققنا حتى الآن معدلات مشاركة رائعة في الدراسة، وتلقينا مساهمات واعية وثاقبة – فلقد اقتطع هؤلاء الأشخاص وقتًا من حياتهم للتفكر والمشاركة! وساعدتنا مساهماتهم في تصميم أول مرحلة من مراحل البرنامج والمقرر إطلاقها في مارس ٢٠٢٢.
ولا يزال العمل على الدراسة جاريًا، وكل مساهمة من شأنها أن تساعدنا في تصميم المراحل المستقبلية من البرنامج لضمان توافق البرنامج مع احتياجاتهم وطموحاتهم.
لمعرفة المزيد من المعلومات عن البرنامج أو المشاركة في الدراسة أو تلقي إشعارات المرحلة الأولى من البرنامج أول بأول، يمكنكم تفقد موقعنا الإلكتروني ومتابعة صفحاتنا على شبكات التواصل الاجتماعي (فايسبوك وإنستجرام ولينكد إن)!
بقلم: چنى العبيديين، راقصة وكاتبة وناشرة مستقلة مقيمة في بيروت بلبنان.