صناع المحتوى المستقلون – حرفة ثقافية مزدهرة في لبنان

صناعة ثقافية ازدهرت على يوتيوب وسپوتيفاي في لبنان في أوقات الأزمات

استغنيت عن التلفزيون والراديو تمامًا بحلول عام ٢٠٢٠، واستعضت عنهما بمشاهدة الأفلام بين الحين والآخر والاستماع أثناء العمل إلى موسيقى كنت أنتقيها عشوائيًا من على اليوتيوب. وعندما وجدت نفسي حبيسة المنزل في فترة الحجر، بحثت مثلي مثل الكثيرين عن طرق جديدة للاستفادة من وقت الفراغ الإضافي. ولم أكن من عشاق البودكاست حتى أرسلت لي إحدى صديقاتي مجموعة من حلقات بودكاست شيقة قدمها مجموعة من اللبنانيين خلال فترة الحجر المنزلي التي فرضها علينا وباء كورونا في ٢٠٢٠. أثارت الحلقات إعجابي بمحتواها الترفيهي التعليمي الجذاب، ومرة بعد مرة صار البودكاست واليوتيوب جزءًا لا يتجزأ من روتيني اليومي.

وقد ساهم الحجر المنزلي أيضًا في تعزيز جودة المحتوى المقدم على شبكة الإنترنت. وكانت الأزمة السياسية والاقتصادية والوبائية في لبنان حافزًا لانطلاق عدة مبادرات ثقافية رائعة على شبكة الإنترنت. “عفكرة” و”سردة بعد العشاء” و”تراث وجذور” و”كبسة”؛ جميعها قنوات إلكترونية ازدهرت خلال هذه الأوقات الصعبة بتقديمها محتوى ذو جودة واستحداث أساليب سرد غير تقليدية مستعينة في ذلك بمنصات إلكترونية ذات شعبية مثل اليوتيوب وسبوتيفاي.

ومن بين المبادرات الثقافية التي أثارت إعجابي بشكل خاص مبادرة عفكرة التي يستند اسمها إلى مصطلح دارج في الشرق الأوسط. يملأ محتواها فجوة في مسح وتوثيق المشهد الفني والثقافي المعاصر في المنطقة العربية ويقدم تحليلات بديلة لتاريخ هذه المنطقة بما فيه من تداخل وتنوع. يثير فريق عفكرة فضولنا الفطري من خلال تقديم معلومات معقدة بطريقة بسيطة ولكن جذابة، ومن خلال طرح أسئلة مثيرة للاهتمام، ومناقشاتهم تجعل المحتويات الأكاديمية سهلة ومثيرة للاهتمام لكل متابعيهم، سواء من المتخصصين أو الهواة.

تثير المنصة مناقشات في مختلف المجالات؛ كالتاريخ والجيوسياسيات والأدب والثقافة الفرعية وثقافة الطهي. بدأ مايكي مهنا في تفعيل شبكة عفكرة في عام ٢٠١٤ من خلال إقامة فعاليات حية في نيويورك التي كان مقيمًا فيها في ذلك الوقت. وبعد فترة وجيزة، توسعت الشبكة وصارت شبكة عالمية تضم متطوعين من أنحاء العالم يعملون على تنظيم فعاليات محلية ميدانية في مختلف القارات. وفي عام ٢٠٢٠ انتقلت فعاليات عفكرة إلى الفضاء الإلكتروني، وكرَّس مهنا، الذي كان في مقيمًا في لبنان في ذلك الوقت، كل جهوده للمبادرة، فنمت المنصة الإلكترونية بسرعة ووصلت لشريحة أكبر من الجمهور في غضون عامين فقط. يمكنكم لقاء الكاتبة اللبنانية لينا منذروالاستماع إلى تحليل جديد لتاريخ لبنان مع أستاذ التاريخ والدراسات العربية، أسامة مقدسي، أو الاستماع إلى المخرجة الشهيرة، مي المصري، وهي تتحدث عن عملها وعن مراحل الإخراج على قناة عفكرة على اليوتيوب ومنصة البودكاست.

ويمكنكم مشاهدة مقابلات وعروض عفكرة والاستماع إلى موسيقاهم على قناتهم على اليوتيوب، وإلى حلقات البودكاست على موقع عفكرة وعلى آبل بودكاست.

 يستند بودكاست سردة بعد العشاء إلى أسلوب مختلف من المحادثات، فهو أشبه بدردشة عفوية بين الأصدقاء بعد العشاء. يتم تقديم البرنامج من قبل معين جابر وميديا عازوري، وقد نجح في محاكاة أجواء التجمعات اللبنانية العفوية التي افتقدناها خلال جائحة كورونا بسبب ما فرضته من تباعد اجتماعي. ففي إطار لقاء عفوي، غير متكلف في غرفة طعامهم يستضيف الثنائي شخصيات من مختلف المجالات؛ من بينهم المخرجة نادين لبكي ورجل الأعمال المثير للجدل كارلوس غصن ورسام The Art of Boo، برنارد الحاج، ويحاولان التطرق في إطار هذه اللقاءات إلى موضوعات حساسة لا تُناقش عادة في وسائل الإعلام التقليدية. عندما تشاهد قناة “سردة بعد العشاء” تستشعر أجواء بيروت الدافئة ذات الطابع العالمي التي تتجسد فيها ميول وتطلعات وطموحات طبقة اجتماعية نادرًا ما يتم تجسيدها بلا رتوش في وسائل الإعلام.

يمكنكم الاستماع إلى حلقات البودكاست الخاصة بسردة على اليوتيوب وسپوتيفاي وآبل بودكاست.

تراث وجذور هي قناة على اليوتيوب تُدار من قبل معلم التاريخ، تشارلز الحايك، وتهدف إلى استكشاف تراث لبنان الثقافي بما فيه من ثراء وتنوع. عرفت تشارلز من خلال قناتي “سردة” و”عفكرة“، وأدركت أن مبادرته تملأ فجوة في توثيق التقاليد غير الملموسة وتتبع جذورها. وإن مثل هذه المبادرات نادرة في لبنان، ولا يتم دعمها من قبل الدولة. تسرد مقاطع “تراث وجذور” قصصًا معززة بشغف وحماس تشارلز عن المواقع التاريخية الأقل شهرة في لبنان، وتحول بذلك التاريخ إلى مادة ممتعة وجذابة تثير فضولك لمعرفة المزيد. وهذا يعود في المقام الأول إلى قدرة تشارلز الحايك على سرد القصة في مقطع فيديو مدته دقيقة أو دقيقتين بحد أقصى، يسلط فيه الضوء على المعلومات التي قد نمضي عدة أيام في التحري عنها. ومن بين التساؤلات التي حاولت منصة “تراث وجذور” الإجابة عنها: كيف وصلت عادة شرب القهوةإلى لبنان والدول المحيطة؟ هل هناك أية علاقة بين طقوس الخصوبة ومواقع الديانات التوحيدية في لبنان؟ ومن أين أتت كلمة كرشوني التي تعني الثرثرة بكلام غير مفهوم باللهجة اللبنانية؟ وماذا تعني في الأصل؟

أما كلمة “كبسة”، فتعني “مفتاح النور” باللهجة اللبنانية، وتشير هنا إلى منصة كبسة على البودكاست وعلى اليوتيوب. تسعى كبسة إلى رسم صورة جديدة لمدينة طرابلس، يسلِّط فيها الضوء على ثروتها البشرية والاجتماعية والثقافية، لتحل محل الصورة النمطية غير الجذابة التي تعكسها وسائل الإعلام التقليدية. يجري فريق منصة كبسة مقابلات مع شخصيات من طرابلس، ويساهم بهذا المحتوى الثقافي في تعزيز الوهج الداخلي للمدينة. يمكنكم مشاهدة قناة كبسة على اليوتيوب والاستماع إلى حلقات البودكاست الخاصة بها للقاء المايسترو باركيف تسلاكيان، قائد كورال الفيحاء، على سبيل المثال، أو الانخراط في نقاش عميق مع مغني الراب مازن السيد الشهير بـ الراس، أو التعرف على فنان كوميديا الموقف، محمد بعلبكي.

تقدم لكم منصة كبسة محتواها على اليوتيوب وسبوتيفاي وآبل بودكاست وجوجل بودكاست وديزر.

لم تغلق المسارح أبوابها إبان الحرب الأهلية في لبنان. وكنت أستمع في طفولتي لقصص لا حصر لها عن الفنانين الذين كانوا يعبرون خطوط الترسيم لحضور البروفات وتقديم العروض. واليوم، تغيرت التنسيقات والوسائط الثقافية وتغيرت معها التحديات، ولم يتغير موقف اللبنانيين الذين نجحوا في إطلاق مبادرات ثقافية جديدة والعمل من دون دعم حكومي. لقد استغلوا المتاح واستندوا إلى شغفهم ومعارفهم واعتمدوا على تقدير جمهورهم في تحقيق الاستدامة المالية. وعادت المبادرات اللبنانية الفردية مرة أخرى لتقوم بدور الحكومة، ونجحت في خلق أراضٍ خصبة لتنمية الإبداع والمعارف في هذه الأوقات الصعبة.

بقلم: چنى العبيديين، راقصة وكاتبة وناشرة مستقلة مقيمة في بيروت بلبنان.