بيت السعادة، ملاذ آمن وُلِد من رحم الفوضى

“عندما أدركنا أهمية وجود واحة خضراء تحتفي بالإبداع وسط الفوضى والدمار، بنينا بيت السعادة.” ميريام طوق & ربيع إلياس سع

طالما أبهرني شغف اللبنانيين بالحياة والفنون والجمال! خاطبت ميريام طوق متسائلة: “ماذا تفعلين في لبنان حتى الآن؟” عرفت ميريام على المستوى المهني وأعرف جيدًا إمكاناتها الهائلة كمهندسة موهوبة وكاتبة محتوى ومعلمة يوجا وعاشقة للفنون. ومثلها مثل العديد من اللبنانيين، تحمل ميريام جنسية مزدوجة. وكل هذا جعلني أعتقد أنها لا بد وأن تكون قد غادرت لبنان بالفعل. فهناك فرص كثيرة في الخارج بانتظار المتعلمين ذوي المهارات العالية واللغات المتعددة من أمثال ميريام. ولكنّ ميريام لم تختر الطريق السهل، بل قررت أن توظِّف مهاراتها وخبرتها من أجل خلق مساحة آمنة للأفراد المقيمين في لبنان لاستكشاف المجال الفني كمجال مهني ووسيلة استشفائية أو حتى ترفيهية في أحلك الأوقات.

بعيون متلألئة مليئة بالأمل، أرتني ميريام صورًا للمساحة التي أمضت هي وربيع ستة أشهر في تجديدها. رأيت فيها منزلًا لبنانيًا مهيبًا على طراز البيوت اللبنانية القديمة، محاطًا بالمساحات الخضراء، ولفت انتباهي بشكل خاص التناقض الحاد بين صور المنزل قبل وبعد التجديد. وكانت الصور وحدها كفيلة بأن تشعرني بالأجواء الأليمة التي خيمت على المنزل قبل ترميمه. قالت ميريام: “أسميناه ’بيت السعادة‘، لأننا نجد العزاء في الفنون ونريد للآخرين أن يشعروا مثلنا!” إنه لأمر غريب، كيف يمكن لصدمة جيل أن تتحول لأمل يساعد جيل آخر على التغلب على صدمة حالية. ولكنّ لبنان معروف بكونه بلد التناقضات التي يكاد بعضها يفوق التصور.

هذا المنزل ملكٌ لعائلة سعادة. ولقد تعاونت ميريام مع ربيع سعادة، أحد ورثة المنزل، في تأسيس مشروع “بيت السعادة”. أما ربيع سعادة، فهو موسيقار موهوب ومطرب وكاتب أغاني ومعلم جيتار وبيانو وموسيقى نظرية. يفضل ربيع اللجوء إلى الموسيقى والكوميديا لتجاوز الشدائد، ويؤمن أيضًا بقدرة الحكي على الشفاء والتغيير. تجد ميريام ملاذًا وعلاجًا في ممارسة اليوجا والفنون والأدب. وإنه لمن الواضح أن الفن قد مكَّن هذا الثنائي من الصمود في مواجهة القيود التي فرضها وباء الكورونا والأزمة المالية وسلسلة الأحداث المأسوية، وتحقيق النجاح رغم كل هذا. وإن مشروع “بيت السعادة” هو محاولة منهم لمشاركة الآخرين تجاربهم، وتخفيف المعاناة والبؤس من خلال الفنون.

يبدو “بيت السعادة” منذ الوهلة الأولى كملاذ إبداعي مثالي، فمساحاته الفسيحة المشتركة مناسبة تمامًا لاستقبال تدريبات وورش عمل ومعارض فنية، وغرف نومه معدة لإقامة الفنانين المحليين والدوليين. وتُقام في حديقته وفي الطابق السفلي فعاليات وعروض أدائية داخلية وفي الهواء الطلق. أما المكتبة، فتبدو كساحة مثالية للعمل وملتقى للاجتماعات بعيد عن التكلف.

يقع بيت السعادة في بلدة وادي شحرور على بعد ٢٠ دقيقة بالسيارة من بيروت. يذكرني بالمواقع الأوروبية التراثية التي حولتها البلديات إلى بيوت ثقافية ومقار لإقامة الفنانين. ولكن على عكس أوروبا، ذاعت شهرة هذا النموذج في جميع أنحاء لبنان دون أي دعم من الدولة أو ممثليها. بل يبدو أن الهيئات الحكومية هي من تعرقل انطلاق المبادرات الجديدة. وإن المرحلة الأكثر تحديًا التي مر بها مشروع “بيت السعادة” منذ انطلاقه تمثَّلت في إنشاء كيان قانوني لمزاولة النشاط. ولو كانت البيروقراطية كابوسًا في الأحوال العادية، فهي أكثر من مجرد كابوس في الدول الفاشلة.

يسعى “بيت السعادة” من خلال البرامج الفنية الدورية التي يقدمها إلى تسليط الضوء على العروض الأدائية والفنون البصرية.

ومن بين الأنشطة الدورية المقرر استضافتها في “بيت السعادة”، دروس التعليم الفني وجلسات العلاج بالفن. للمشارك أن يختار المجال أو المجالات الفنية التي يريد التعرُّف عليها من خلال الدروس التعليم الفني التي تُقدَّم على هيئة باقات مجدولة أسبوعيًا أو شهريًا. أما جلسات العلاج بالفن، فيرافق المشاركين على مدى فترة زمنية ممتدة ويتابع تقدمهم عبر مراحل رحلتهم الاستشفائية. ويقوم نخبة من المعالجين والأخصائيين النفسيين بالإشراف على تنفيذ هذا البرنامج وتقديم المشورة في تصميمه.

ومن المقرر أيضًا تحويل الطابق السفلي، الذي كان في الأصل عبارة عن مطبخ وصالونين، إلى مكتبة ومقهى لمن يبحثون عن مساحة هادئة بعيدًا عن صخب المدينة للعمل بتركيز على كتاباتهم أو أبحاثهم أو مشروعاتهم. أما الطابق العلوي، حيث غرفة المعيشة وغرف النوم الرئيسية الثلاثة، فسيستقبل المشاركين في برامج الإقامات والمتحدثين والمعلمين الزائرين أو أي شخص يبحث على مدار العام عن خلوة في بيئة فنية صحية.

وتُقام في المركز أنشطة أخرى بصفة غير دورية، كورش العمل والمعارض الفنية والعروض الأدائية الحية. تغطي ورش العمل مجموعة متنوعة من التخصصات الفنية استكمالًا للدروس الفنية الدورية. ومن خلال ورش عمل قصيرة ومكثفة ستتاح للمشاركين الفرصة للاستفادة من الفنانين والخبراء المحليين والدوليين على نطاق واسع.ويسعد “بيت السعادة” أن يستقبل المتحدثين الزائرين للإقامة فيه طوال مدة انعقاد ورش العمل الخاصة بهم. بالإضافة إلى ذلك، يتم السماح للمشاركين والخبراء الفنيين على حد سواء بعرض أعمالهم في المعارض الفنية. ويستقبل المركز مجموعة واسعة ومنتقاة من الفعاليات المجتمعية والحية، ما بين عروض موسيقية وكوميديا ارتجالية ومبارزات شعرية وإلقاء، وغيرها من الفعاليات.

وسيتم السماح للمنظمات باستئجار البيت في حالة رغبتها في إقامة أنشطة فنية تتماشى مع رؤية ورسالة “بيت السعادة”.

وبداية من شهر يوليو ٢٠٢٢ سيفتح بيت السعادة أبوابه للضيوف والمشاركين في برامج الإقامة الفنية، وسيتم افتتاحه رسميًا والإعلان عن أولى برامجه في سبتمبر ٢٠٢٢.

المجد لهذا الثنائي الذي تمكَّن من تجديد البيت وفتح أبوابه للجمهور رغم الأزمة الاقتصادية التي زادت من صعوبة الحصول على مواد البناء بأسعار معقولة، وزادت من تقلبات تكلفة العمالة، ناهيك عن عواقب الانقطاع المستمر للكهرباء والزيادة المطردة في أسعار الوقود. إن انطلاق أي مشروع في ظل هذه الظروف الصعبة يتطلب شجاعة مذهلة وإيمانًا بإمكانيات الأفراد وقدرتهم على التعافي في كل مرة. إلا أنه يمنح الآخرين الثقة بأن الغد سيكون أفضل بالتأكيد.

بقلم: چنى العبيديين، راقصة وكاتبة وناشرة مستقلة مقيمة في بيروت بلبنان.

حقوق طبع ونشر الصور. ميريام طوق/ بيت السعادة