جنية عبقرية وراء تأسيس شركة للمونتاج في لبنان

تعلَّمت في معهد السينما أن المونتاج يلعب دورًا جوهريًا في تجسيد رؤية المخرج بشكل كامل. ولم أشك في هذا المفهوم ولو للحظة، إلى أن سنحت لي الفرصة للعمل مع ميشيل تيان ومشاهدتها وهي تحول مئة ساعة من اللقطات المصورة وغير المرتبة إلى تحفة فنية حصدت مجموعة من الجوائز. أدركت عندئذ أن المونتير يشارك أحيانًا في تأليف الفيلم بطريقة غير مباشرة. فهو لا يساعد المخرج في الاستفادة لأقصى درجة ممكنة من اللقطات المصورة فحسب، بل ويشاركه أحيانًا في إعادة كتابة الفيلم على جهاز المونتاج.

تقول ميشيل: “المونتاج هو شكل من أشكال الكتابة. هو في الحقيقة إعادة كتابة للفيلم. فعلى جهاز المونتاج يتشكل أسلوب الفيلم وتتكشف هويته.” ميشيل تيان هي سيدة أعمال رائدة ومونتيرة ومنتجة ومخرجة ومحاضرة وشخصية مثقفة متعطشة للعلم وأم لثلاثة أبناء، وفوق كل هذا فنانة مذهلة ونموذج يُحتذى به.

رغم صعوبة الاختيار ما بين دراسة الرياضيات وصناعة الأفلام التحقت ميشيل في عام ١٩٩٠ بالمعهد العالي للإنتاج السمعي البصري في باريس (ESRA) حيث تجلت لها ميولها إلى مجال المونتاج مقارنة بالتخصصات السينمائية الأخرى. وعلى الرغم من ارتباطها الشديد بمسقط رأسها، بيروت، إلا أن السنوات التي قضتها في باريس لعبت دورًا جوهريًا في تشكيل شخصيتها الفنية ووعيها السياسي.

أثناء استكمالها مسارها الدراسي في معهد ESRA بباريس على مدى ثلاث سنوات التقت ميشيل بالمخرجة اللبنانية جوسلين صعب وقدمت لها جوسلين الدعم في كل مرحلة من مراحل عملها. وعلى مدار عام ونصف من التعاون نشأت بينهما صداقة قوية رغم فارق السن. وتعلَّمت ميشيل كل شيء عن صناعة السينما من خلال تجاربها العملية مع جوسلين، حتى أنها أسندت لها دور البطولة في فيلم “كان يا مكان، بيروت”.

وفي عام ١٩٩٣ عادت ميشيل إلى بيروت على أمل أن يتسنى لها العمل في موقع تصوير فيلم مارون بغدادي الجديد، لتصطدم بخبر وفاته المفاجئة. تأثرت المخرجة الشابة التي كان عمرها في ذلك الوقت ٢١ عامًا، بهذه الحادثة تأثرًا شديدًا، ولكنها ألهمتها في الوقت نفسه للاستقرار والعمل في بيروت. عملت ميشيل لعام ونصف العام كمخرجة مساعدة في شركة إعلانات – وهو القطاع النشط الوحيد في لبنان في ذلك الوقت إلى جانب التلفزيون. ولكنّ شعورها بالغربة في قطاع الإعلانات كان وراء القرار الذي اتخذته مع صديقها بيير سلوم بترك ها المجال وتأسيس أول شركة مونتاج في لبنان في عام ١٩٩٥ باسمDjinn House Productions

شهدت فترة التسعينيات تغيرًا جذريًا في صناعة السينما بشكل عام، وفي مجال المونتاج بشكل خاص. بدأت السينما تبتعد شيئًا فشيئًا عن التصوير التناظري والفيلم الخام، وتنتقل تدريجيًا إلى التسجيل الرقمي. ولكن التحول الرقمي كان أكثر سرعة بكثير في مجال المونتاج لينتقل بذلك من المونتاج الخطي إلى اللاخطي.

وكان هذا هو التوقيت المثالي لشركة دجين هاوس لترسي قواعدها كشركة رائدة في مجال المونتاج اللاخطي، إلا أن صناعة السينما في بيروت في ذلك الوقت كانت محدودة وشديد التنافسية. وكانت شركات الإنتاج القائمة آنذاك تتولى تجهيز الفيلم عبر جميع مراحله، بداية من مرحلة ما قبل الإنتاج ووصولًا إلى آخر يوم في مرحلة ما بعد الإنتاج. ولذلك، كانت فكرة تأسيس شركة المونتاج فكرة مبتكرة وجريئة في مثل هذا السوق. واستحدث هذان الشابان مفهوم التعاون المشترك، الذي كان غريبًا على هذه الصناعة في ذلك الوقت. ونجحا بالفعل في ذلك بامتياز! وبعد مرور عام على تأسيس الدار قرر المنتج، الذين سخر في الماضي من فكرة تأجير معدات المونتاج خاصته لشركة دجين هاوس، أن يقوم بالفعل بتأجير معداته للشركة وأن يصبح أحد عملائها المخلصين.

وساهمت ميشيل تيان منذ انطلاق شركة دجين هاوس، مساهمة جوهرية في نمو مشهد الأفلام المستقلة في لبنان. وتعاونت كمونتيرة في صناعة بعض الأفلام الروائية لأبرز المخرجين، من بينهم غسان سلهب وبهيج حجيج ومي مصري وميشيل كمون، وكذلك مع مخرجي أفلام وثائقية من أمثال جون خليل شمعون وأكرم زعتري وتمارا ستيبانيان وزينة دكاش ورين ميتري. بالإضافة إلى قيامها بإخراج وإنتاج العديد من الأفلام الوثائقية والمؤسسية.

إن خبرة ميشيل العملية جعلت منها معلمة مثالية، لكنها لم تحول بينها وبين رغبتها في تعلم المزيد. تمضي ميشيل ساعات طويلة في المطالعة استعدادًا لمحاضراتها في ألبا، الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة، وتصرّ على منح طلابها القدر الكافي من المعلومات النظرية الحديثة لمساندتهم خلال تدريبهم العملي. ولا يقتصر دورها كمعلمة على الجامعة فحسب، بل منحت أيضًا الطلاب المهتمين الفرصة للحصول على تدريب مهني في شركتها.

إن ميشيل تيان ليست فقط مؤسسة ومديرة لشركة مونتاج ومونتيرة ومحاضرة، بل هي إنسانة بداخلها روح فضولية لا تتوقف أبدًا عن البحث عن تجارب جديدة وعن استكشاف إمكاناتها اللانهائية. وهي أيضًا عضوة في منتدى شهري للقراءة، وتحرص دائمًا على ممارسة هذه الهواية مهما بلغ انشغالها.

وعلى مدى الأعوام القليلة الماضية التحقت ميشيل بسلسلة من ورش عمل الكتابة استعدادًا لإخراج أول أفلامها الروائية، وللاستفادة منها في تطوير فكرة السيناريو، الذي انتهت بالفعل من كتابته مؤخرًا. تدور أحداث أول أفلامها حول نايلا، سيدة في العقد الخامس من عمرها، التي تكافح من أجل المحافظة على أسرتها في بلد على شفا الانهيار. تتعاون ميشيل في هذا الفيلم مع المنتجة سابين صيداوي، المؤسسة المشاركة لشركة أرجوان للإنتاج، وهو حاليًا في مرحلة ما قبل الإنتاج.

كان من دواعي سروري أن أعمل مع ميشيل تيان بين عامي ٢٠١٠ و٢٠١٢، وأن أشاهدها وهي تحاول الموازنة بين كل جوانب حياتها بمنتهى الرقي. لم أنبهر بميشيل على الصعيد المهني فقط، بل وكذلك على الصعيد الشخصي، كأم متفانية لطفلين رائعين، ورأيت كيف تدبرت أمور حياتها عندما رُزِقَت بطفلها الثالث. فعلى الرغم من انشغالها إلا أنها كانت دائمًا ما تستيقظ معهم كل صباح وتتحدث معهم أثناء استراحة الغذاء وتضعهم كل ليلة في الفراش حتى وإن اضطرت للعودة إلى المكتب مرة أخرى في التاسعة مساءً لتفي بموعد تسليم نهائي لأحد المشروعات. إنها بالفعل جنية رائعة ونموذج يُحتذى به.

بقلم: چنى العبيديين، راقصة وكاتبة وناشرة مستقلة مقيمة في بيروت بلبنان.

حقوق الطبع والنشر: ميشيل تيان / دجين هاوس