قال الممثل البريطاني الراحل لورانس أوليفييه ذات مرة: “أؤمن بأن المسرح العظيم هو الدليل الظاهر والمرئي على وجود إمكانات ثقافية دفينة في المدن الكبرى، أو حتى في المدن الصغرى والقرى. ولقد استطاعت مجموعة كبيرة من الفرق المسرحية أن تبقي المسرح حيًا خلال الفترة الماضية رغم التحديات الصعبة التي شهدتها لبنان. أسلط الضوء في هذا المقال على دور مبادرة مسرح شغل البيت في إبقاء قاعات المسارح مفتوحة وعلى دور الكتاب المسرحيين البارز في ظهور ثقافة محلية أصلية.
“حادث السيارة” (١٩٩٥) و”درج” (٢٠٠٤) و”آويها يا عروس” (٢٠٠٦) و”رسائل من عمتي” (٢٠١١) و”مقبرة الفيلة” (٢٠١٦) و”حبال القمر” (٢٠١٩) و”عقد وخاتم وسوار” (٢٠٢٠) هي مجرد أمثلة على الأعمال التي قدمها لنا الكاتب المسرحي اللبناني ديمتري ملكي. بدأ ديمتري في كتابة المسرحيات باللهجة اللبنانية والعربية الفصحى والفرنسية منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، فضلًا عن كونه ممثلًا ومعلمًا وأمينًا للمحفوظات. عرفت ديمتري في البداية كمعلم تاريخ سينمائي شغوف قبل أن نصبح أصدقاء. يتميز بذاكرته الاستثنائية وبخبرته الواسعة بالمشاهد السينمائية والمسرحية المحلية والإقليمية والعالمية. أشعر أحيانًا وأنا معه أنني برفقة موسوعة بشرية. إلا أن ما يتمتع به ديمتري من مواهب وخبرات قد يبدو أحيانًا وكأنه نقمة وليس نعمة، لاسيما في بلد كلبنان لا يحصل فيه الفنانون على أي نوع من الدعم. لم يكن من السهل عليه أن يختار أن يكون كاتبًا محترفًا في المنطقة العربية، ناهيك عن كاتب مسرحي.
إن النشر بالنسبة للكتاب المسرحيين هو أحد الطرق للوصول للجمهور، ولكنه ليس الطريق الأكثر إرضاء بالنسبة إليهم. فإن الكاتب المسرحي يريد أن يرى كتاباته مجسدة على خشبة المسرح الذي هو غاية أية نص مسرحي. ولعل أشهر مسرحية كتبها ديمتري هي مسرحية “نارسيس” (١٩٨٦) التي تم تقديمها لعدة مرات على مسارح لبنان على مدى عشرين عامًا. ثم التقى ديمتري بالمخرج المسرحي، شادي الهبر، مؤسس مبادرة “مسرح شغل البيت” التي توفر ساحة تدريب بديلة للمحترفين والهواة من الممثلين والمخرجين المسرحيين. ومنذ ذلك الحين، عرفت مسرحيات ديمتري طريقها إلى خشبة المسرح، وعثر شادي في أعمال ديمتري أخيرًا على منجم من الذهب من النصوص المسرحية اللبنانية التي كان يبحث عنها منذ فترة طويلة.
تعود فكرة مبادرة مسرح شغل البيت إلى عام ٢٠١٦ عندما قرر شادي أن يحول شقة في مبنى تقليدي قديم ببيروت إلى ملاذ لعشاق المسرح في ذلك الموقع الرائع الذي يبدو وكأنه قرية صغيرة منسية في المدينة، بين طريق العدلية السريع وشارع فرن الشباك المزدحم. إن زيارة هذا الزقاق مساء هو تجربة ساحرة في حد ذاتها. أما الشقة، فهي عبارة عن منزل بالفعل وساحة ذات طابع حميم وشخصي تُقَدَّم فيها دورات تدريبية وورش عمل للممثلين على مدار الأسبوع. وقد برع شادي في منح الساحة الاكتفاء الذاتي والاستدامة المالية من خلال استحداث نموذج قائم على الدعم الذاتي للمجتمع.
تُقام التدريبات في مسرح شغل البيت على هيئة دورات مدة كل منها تسعة أشهر ويتم اختتامها بعرض مسرحي مُقدَّم من قبل الطلاب في أحد المسارح البارزة بالمدينة. وبعد انتهاء التسعة أشهر الأولى يتسنى للطلاب الناجحين في المرحلة الأولى، والراغبين في مواصلة تتبع شغفهم، الالتحاق بدورة تدريبة أخرى للمحترفين. وخلال عطلات نهاية الأسبوع، في معظم الأحيان، يقدم المركز ورش عمل متفرقة للجمهور. وقام المركز خلال الست سنوات الأخيرة بتخريج ١٨ مجموعة من الطلاب وتقديم ٢٨ عرض مسرحي، ما بين مشروعات طلابية وعروض احترافية. تعود خمسة من هذه الأعمال إلى ديمتري ملكي؛ نارسيس ودرج والجثة المتنقلة ووشاح ودفاتر لميا، وتم تقديمها جميعًا من قبل فريق عمل محترف. وفي مسرحية “الجثة المتنقلة” عاد ديمتري مرة أخرى كممثل مسرحي بعد فترة غياب طويلة وقام فيها بدور البطولة.
أسفر تعاون شادي الهبر مع ديمتري ملكي عن نتائج رائعة قلما تجد لها مثيلًا على مدار تاريخ لبنان. ويرى ديمتري أن التعاون بين المخرجين والكتاب المسرحيين لا بد وأن يسير على هذا النحو، أو على الأقل هذا هو النموذج القائم في أوروبا، حيث يحرص المخرجون المسرحيون على البحث بشغف ونشاط على النصوص المسرحية التي تتوافق مع رؤاهم. وما أن يتم العثور على هذه النصوص يقوم المخرج بالتواصل مع الكاتب ليبحث معه أوجه التعاون المحتملة. لكنني أرى أن ما يميز تعاونهم المستمر هو الاتساق الوثيق لرؤاهم الفنية، وهذا شيء نادر الحدوث، حتى في البلدان الأكثر خبرة في مجال المسرح. وأفترض أن هذه العلاقة التعاونية الناجحة لا بد وأن تقوم على تنازلات متبادلة لتكون النتائج النهائية مُرضِية لكلا الطرفين.
جدير بالذكر أن تعاون ديمتري مع مبادرة مسرح شغل البيت لا تقتصر على العروض المسرحية فحسب، بل استعان به المركز على مدى العامين الماضيين بصفة منتظمة من أجل تقديم محاضرات للطلاب. يدير ديمتري ورش عمل في الكتابة المسرحية لطلاب الساحة والجمهور العام على حد سواء، ويعطي محاضرات في تاريخ المسرح للطلاب المنتظمين. حدثني ديمتري عن فريق المبادرة قائلًا: “إن شغف فريق وطلاب مسرح شغل البيت بالمسرح وبصناعة المسرح يذكرني بأولى تجاربي المسرحية. كان من الممكن أن أمضي ٢٤ ساعة في المسرح مثلهم تمامًا. وهذا الكمّ من الحب والتفاني للمسرح أصبح نادرًا جدًا هذه الأيام وهو ما ينعكس على جودة العمل النهائي.”
يستعد شادي وديمتري في الوقت الراهن لتقديم ثلاثة عروض مسرحية جديدة في ٢٠٢٣؛ أولها “رحيل الفراشات” والتي من المقرر عرضها في أواخر فبراير او أوائل مارس، ومسرحية “في الأربعين” المقرر عرضها في شهر مايو، ومسرحية “ملكة البستوني” التي تقرر عرضها في الخريف القادم. وانتهت تجارب الأداء لهذه المسرحيات الثلاث، واتفق المخرج والكاتب المسرحي على اختيار فريق العمل وبدأت بروفات أولى المسرحيات بالفعل.
إنه لمن الممتع والمبهج حقًا أن نرى أناسًا يعملون بشغف، لاسيما في بلد كلبنان، لم يكتف بقمع الشغف، بل خنقه بنظامه السياسي التعسفي المختل. إلى جانب كونه شكلًا فنيًا عظيمًا، يعد المسرح ممارسة علاجية واستشفائية للقائمين عليه ولمشاهديه على حد سواء. آمل أن تستمر هذه الشرارات الضوئية الساطعة في إسعاد قلوبنا وأرواحنا وإعادة المدينة للحياة على نحو أقوى وأكثر حيوية.
بقلم: چنى العبيديين، راقصة وكاتبة وناشرة مستقلة مقيمة في بيروت بلبنان.
حقوق طبع ونشر الصور :دیمتري ملكي