صانعة الشموع الكردستانية

بقلم سازان مـ. مندلاوي، منسقة ومُدَوِنة شغوفة في طريقها للحصول على درجة الدكتوراه في مجال التعليم. تسلِّط الضوء في مدوناتها على المشهد الثقافي والإبداعي بإقليم كردستان بالعراق.

“أمنية ثم حلم ثم حقيقة!” كنت كثيرًا ما أصادف هذه المقولة في منزل هدى سرحانج، صديقتي العزيزة على قلبي قبل أن تكون إحدى أشهر رائدات الأعمال في كردستان.

قبل أكثر من أربعة أعوام صمَّمت هدى أول شمعة من شموعها على طاولة المطبخ بشقتها الكائنة في إحدى ضواحي إربيل. أرادت في البداية أن تختبر الفكرة فحسب، لترى كيف ستسير الأمور. فقامت صانعة الشموع العصامية بشراء بضعة كيلوجرامات من الشمع عبر الإنترنت، تم شحنها إليها من المملكة المتحدة إلى إربيل، وصبَّت بيديها أول شمعة على طاولة مطبخها في عام ٢٠١٧. أنشأت هدى صفحة لمشروعها على موقع إنستجرام باسم “Lala Candles” (شموع لا لا) والتي أفتخر بكوني واحدة من أوائل متابعيها، وبدأت تتلقى أولى الطلبيات عبر رسائل الصفحة المباشرة. وتلك كانت بداية رحلتها التي تجسَّدت فيها مقولة “أمنية ثم حلم ثم حقيقة!”.

ذهبت لزيارتها في منزلها ذات شتاء لأنشر لها فيديو قصير على صفحتي على اليوتيوب. وأتذكَّر أنها كانت تضع علبة مليئة بمستلزمات الحرف اليدوية ومسدس شمع وغلاية صغيرة تذوِّب فيها الشمع على طاولة مطبخها الصغيرة. شعرت وأنا أشاهدها وهي تصنع الشموع وكأنني في جلسة علاج استشفائي. لم تكن تصنع الشموع بيديها فقط، بل بكل كيانها؛ بعقلها وقلبها وروحها. مازلت أتذكَّر ما قالته لي آنذاك: “هناك قطعة مني في كل شمعة… فكل شمعة قمتُ ببيعها صببتها بيدي.”

وأذكر أيضًا أنها كانت تتردد على الأسواق المحلية بصفة منتظمة بحثًا عن الكنوز ولوازم الحرف اليدوية والعناصر التراثية من أجل تزيين شموعها.

إن رغبة هدى في إطلاق هذا المشروع قد نبعت من حبها للثقافة الكردية. وهذا ما حدثتني عنه قائلة: “إن شغفي بالشموع والثقافة الكردية كان وراء إطلاقي لمشروع ’لا لا كاندلز‘”. أرادت أن يعرف الأجانب المزيد عن الثقافة الكردية. وأوضحت لي أن من بين ما دفعها لإطلاق المشروع هو رغبتها في ابتكار منتج لا وجود له في الأسواق بعد، ليكون بمثابة تذكار يشتريه الزوار قبل رحيلهم عن كردستان.

وسرعان ما توسَّع المشروع بعدما بدأته هدى على طاولة صغيرة بمطبخها. وكرَّست غرفة كاملة بشقتها لصناعة وتغليف وتخزين الشموع. وفي هذه الغرفة اشترت هدى ماكيناتها الأولى لتذويب الشمع ولم تعد تذوِّب الشمع في غلاية على الموقد.

كنت كثيرًا ما أجد في شقة هدى ملاذًا من صخب وزحام الحياة. ما أن ينفتح باب الشقة حتى تستقبلني نسمات ناعمة من الخزامى الممزوج بالفانيليا، وتأخذني في رحلة عبر حقول الزهور. وكانت أجواء منزلها دائمًا ما تبعث على الاسترخاء، وتختلف روائحها بحسب توليفة الشموع التي تختبرها في ذلك اليوم. كانت تصنع الشموع وسط نغمات الموسيقى الكلاسيكية والروائح الهادئة وبصحبة قطتها الفارسية “ديو” التي كانت تتراقص على أطراف أصابعها على أنغام الموسيقى وكأنها راقصة باليه ويتمايل ذيلها على نحو مثالي بين مئات الشموع حتى لا تتعثر بأي شيء، أو بالأحرى بأي شمعة.

وما بدأ كمشروع تجاري صغير على صفحة إنستجرام أصبح الآن منتج ذو علامة تجارية يُغلَّف ويُعبأ بأسلوب احترافي، ووجد طريقه إلى أشهر تطبيقات الشحن وصارت له مراكز بيع عديدة، منها مركز في العاصمة العراقية، بغداد. وتحاول هدى الآن أن تحث عملائها على صفحة إنستجرام على الطلب عبر موقعها الإلكترونيمباشرة. منحت هدى لمشروعها شعار “Gift a Story” أو “تهادوا بقصة”، وأرفقت فيه كل شمعة بتحذيرات السلامة وختمتها بفخر بختم “مصبوبة يدويًا في كردستان”.

كنت شاهدة على رحلة هدى في كل مرحلة من مراحلها. شاركت بحماس وتقدَّمت بالعديد من طلبات الالتحاق في برامج تحفيز المشروعات الناشئة وبرامج التدريب في مجال المشروعات وكأنها تخوض امتحانات الثانوية العامة. ورغم أن دراستها للسياسة والعلاقات الدولية قد أكسبتها لمحة عن هذا المجال، إلا أنها تعرَّفت على الجوانب الفنية والتقنية من خلال مشاركتها في برامج التدريب ومن خلال أبحاثها الخاصة. رأيت كيف حرصت هدى على استخدام المصطلحات الفنية ذات الصلة بمجال الأعمال وعلى إنشاء وتحديث خطط مشروعها عقب كل دورة تدريبية. وكلما حاولت الالتحاق بإحدى الدورات التدريبية كانت تقول لي: “ليس لدي شيء لأخسره، بل إن أي شيء سيكون مكسبًا لي”. كانت تضع أهدافًا نصب أعينها؛ أهدافًا عاجلة وأخرى آجلة، وتتقدَّم للأمام بخطى استراتيجية صغيرة ومدروسة. وكانت تقول لي أحيانًا: “بذلت مجهودًا كبيرًا مؤخرًا، ولكنّ العملاء لا يلاحظون ذلك”، إشارة منها إلى شراء ماكينات تذويب الشمع وتوظيف العاملين وتصميم الغلاف واختبار المنتجات. إنها تغييرات خفية تحدث وراء الكواليس لا يشعر بها ولا يراها أحد سواها، ورغم ذلك نما مشروعها تدريجيًا على مدى أربعة أعوام.

وينسى الكثيرون من جهة أخرى أن انطلاق مشروع هدى قد تزامن مع توقف أنشطة كثير من المشروعات الأخرى بسبب فترة الركود التي مرت بها كردستان مع اقتراب ميليشيات داعش من المنطقة. بدأ الناس يفقدون الأمل وعانت المنطقة من حالة عدم استقرار شديدة. فتحولت شموع هدى آنذاك إلى شعاع أمل في بلد كان على شفا الانهيار اجتماعيًا وسياسيًا، وكذلك اقتصاديًا بطبيعة الحال. ولم تكن شموعها شعاع أمل ومصدر إلهام لها فحسب، بل ولكثير من الشابات الأخريات اللاتي قررن أن يتبعن خطاها ويسعين لتحقيق أحلامهن ويبتكرن بأيديهن وعقولهن الإبداعية مشاريعهن التجارية الخاصة. وسمعت كثير من النساء الشابات يتحدثن إلى هدى في الفعاليات المختلفة على مر السنين عن كونها مصدر إلهام وحافز لهن.

وعندما سألت هدى عن شعورها حيال إنجازاتها، فأجابتني بنبرة مفعمة بالحيوية: “إنني لفخورة وسعيدة. تمكَّنت من تحقيق إنجاز هائل في هذا المجال.”

إن ما حققته هدى من إنجازات خلال مسيرتها في مجال ريادة الأعمال لم يعد بالنفع عليها فقط، بل وعلى النساء الناجيات من العنف اللواتي يعملن لديها بدوام جزئي. أتساءل في نفسي كيف يمكن لصناعة الشموع أن تعيد الأمل إلى نفوس من عانين من العنف القائم على النوع الاجتماعي، فأجد نفسي أتخيل كمّ المنافع المادية والطاقة الإيجابية والتفاؤل الذي تعود به صناعة الشموع على حياة النساء اللواتي يساعدن هدى في تصميم الشموع.

لقد تطور مشروع “لا لا كاندلز” واتسع نطاقًا ليشمل طلبيات بالجملة، بعدما كان يقتصر على الطلبيات الفردية قبل أربع سنوات. وتأمل هدى على مدى الخمس سنوات القادمة أن يتسنى لها تنفيذ عدد أكبر من طلبيات الجملة وزيادة منتجات “العلامة التجارية البيضاء”. وترغب أيضًا في توسيع مقر الإنتاج وتوظيف العاملين بدوام كامل وليس بدوام جزئي، كما هو الحال الآن، وأن تمتد مراكز بيع منتجاتها لخارج حدود كردستان. وقد نفَّذت هدى بالفعل طلبية من آلاف الشموع لشركات كبرى في إقليم كردستان، من بينها واحدة من أكبر شركات الاتصالات في البلاد.

تعتبر هدى، الحاصلة على شهادة الماجستير في العلاقات الدولية، سفيرة لكردستان ولثقافته الغنية والمتنوعة، وإن لم يكن على الصعيد السياسي، إلا أن تسويق شموعها المستوحاة من الثقافة الكردية قد ساهم في غرس حب التاريخ والثقافة الكردية الثرية في أعماق الكثيرين وهو ما ألهمها منذ البداية لبدء مسيرة صناعة الشموع. ومن بين إنجازاتها الكثيرة، قامت هدى بتعليم نائب رئيس الوزراء فن صناعة الشموع. وتأمل الآن، بعد انتقالها لمقرها الجديد، أن يتسنى لها استضافة مجموعات صغيرة في دورات تعليم فن صناعة الشموع.

سألت هدى عن شعورها حيال كونها واحدة من الشخصيات المؤثرة في المنطقة وفي قطاع صناعي لا يزال بكرًا، فأجابتني أن الأمر “ممتع أحيانًا وصعب أحيانًا أخرى… إن المرء ليلعب بالألوان والعناصر والأفكار المختلفة ويمضي وقت فراغه في التفكير والكتابة والابتكار. ولكنّ التحدي يتمثَّل في كيفية استقبال الناس للفكرة واستيعابهم لها من دون شرح.”

وخلال الأسبوع الذي عكفت فيه على كتابة هذا المقال، انتقلت هدى ولأول مرة خلال مسيرتها كرائدة أعمال إلى أول إستوديو خاص بمشروع “لا لا كاندلز”. وها هي تدير مشروعها التجاري وتصنع شموعها وتستقبل عملائها خارج منزلها لأول مرة.

وتظهر هدى في أحدث صورها وهي جالسة فوق أكبر طلبية للشمع الخام تم شحنها إليها من الخارج: طن كامل من الشمع الخام!

تجلس هدى الآن في ورشتها الخاصة المطلة على مدينة إربيل وتصنع الشموع وإلى جوارها تلك المقولة التي صرت أعرفها جيدًا: “أمنية ثم حلم ثم حقيقة”. هدى هي مثال حي لهذه المقولة، وتلهم في كل يوم نساء أخريات من بنات وطنها للسعي وراء شغفهن.

حقوق نشر الصور: هدى سارحانج