دار نشر لقوم: رشا مرتضى، ذواقة الكتب!

يُقال إن كل منَّا لديه طفل صغير بداخله. منَّا من قرر أن يكبح جماحه طوال الوقت ويلبسه قناع النضج الذي يفرضه علينا المجتمع، ومنَّا من سمح له بالانطلاق بعض المناسبات الخاصة أو في مواقف معينة يرونها مناسبة، وقلة فقط هم من اعترفوا بحقه في التواجد بشكل كامل في حياتنا كبالغين.

وإن كنت تتحلى بواحدة من هذه الصفات، فاعلم أن بداخلك طفل حر ومتزن وسعيد: المرح، والفضول، والقدرة على التساؤل والاستعداد لمواصلة الحلم والمخاطرة.

عملت رشا مرتضى كمهندسة في مجال الطب الحيوي وباحثة في الأمم المتحدة ومحللة للسياسة العامة في دبي، ثم شعرت أن الوقت قد حان لتعطي طفلها الداخلي الحق في التعبير عن نفسه من خلال إطلاق العنان لشغفها بالكتابة وإعادة إحياء عشقها للكتب الذي لازمها طوال حياتها. استغلت رشا خبرتها العملية في قطاع الشركات والقطاع الحكومي، وأطلقت في عام ٢٠١٧ دار نشر صغيرة ببيروت أطلقت عليها اسم لقوم. ترى رشا أن “الكتب متعة ينبغي تذوقها”، وهذا هو ما ألهمها لاختيار اسم دار النشر وشعارها: “نحن ذواقة الكتب”.

إن عشق رشا لكتب الأطفال بدأ منذ نعومة أظافرها ولازمها طوال حياتها، حتى أنها لم تتوقف أبدًا عن جمع الكتب. تقول رشا: “إنني دائمًا ما أبحث عن الإصدارات الخاصة؛ حتى أنني جمعت أربعة أو خمسة إصدارات مختلفة من ’أليس في بلاد العجائب‘، وهو أحد كتبي المفضلة. هناك شيء مميز في كتب الأطفال يجعلها أكثر سحرًا من كتب الكبار، فهي تترك مساحة أكبر للخيال واللامنطقية والعواطف الجريئة غير المقيدة بالخجل، وغالبًا ما تتضمن رسالة عالمية تلقى صدى لدى كل من يقرأها من الكبار والصغار، على حد سواء. أظن أن سـي. إس. لويس هو من قال إن كتاب الأطفال الجيد هو ذلك الذي يستمتع به الكبار أيضًا. ولذلك، افترضت أن كتابة ونشر كتب الأطفال سيكون أكثر متعة بالنسبة لي، وسيترك لي مساحة أكبر للإبداع.”

قبل التحاقها بصناعة النشر التحقت رشا مرتضى بـ دورة كولومبيا للنشر التي أقيمت آنذاك لأول مرة في أوكسفورد. حدثتني رشا عن تلك الدورة قائلة: “كانت دورة قائمة على التطبيق العملي،وانعقدت على مدى شهر بدوام كامل تحت إشراف متخصصين من قطاع النشر. وخلال “أسبوع الكتاب” تم تقسيم الطلاب لدور نشر خيالية ومنح كل طالب منَّا دور في الدار؛ كالمحرر ومدير التسويق ومدير العلاقات العامة…إلخ. ومن مفارقات القدر أنني حصلت على دور الناشرة (لا أنكر أنه كان عليّ أن أقنع الآخرين للحصول على هذا الدور، ولكنه كان تدريبًا جيدًا لي على دوري المستقبلي). سمينا دار النشر خاصتنا “فينش آند فيذر”. وقمنا بإعداد كتالوج يضم ستة مقترحات متكاملة لستة كتب مختلفة، مع اقتراح مؤلفيها ورساميها، ووضع خطة دعائية وتسويقية لها وكشف حساب بالأرباح والخسائر. وكانت بالفعل تجربة عملية مثيرة وواقعية لما يجري حقًا داخل دور النشر، وأفادتني كثيرًا في تأسيس دار لقوم، حتى أنني قمت بتنفيذ أحد الأفكار التي طرحتها آنذاك في دار النشر الخيالية من خلال كتاب “حيوانات تسبح وتمرح وتتأرجح”.

وفي عام ٢٠١٨ نشرت لقوم أولى كتبها بعنوان “حيوانات تسبح وتمرح وتتأرجح“، باللغتين الإنجليزية والعربية، وهو من تأليف رشا مرتضى ورسم إليا طويل. وعن فكرة هذا الكتاب التعليمي الترفيهي علَّقت رشا قائلة: “من شأن الحيوانات أن تذهلنا وتخطف أنفاسنا بحركاتها.” هل تساءلت يومًا كيف تتأرجح القردة من شجرة لأخرى، أو كيف يمكن للبرص أن يتدلى رأسًا على عقب من ورقة شجرة؟ ستجد في “حيوانات تسبح وتمرح وتتأرجح” إجابات على كل أسئلتك وأكثر. يجذب الكتاب عشاق الحيوانات من جميع الأعمار برسوماته المعبرة وشرحه المبسَّط لحركات مختلف الحيوات، من الليمور القافز إلى السرطانات الزاحفة.

وفي نفس العام أصدرت دار لقوم كتاب “عندما أكبر أريد أن أكون…” باللغة العربية. يرافق الكتاب القراء الصغار ذوي الطموحات الكبرى في رحلة يستعرض لهم من خلالها مجموعة مثيرة للاهتمام من المهن، بينما يحاول خفية هدم القوالب الوظيفية والصور النمطية القائمة على النوع الاجتماعي.

اعتادت رشا خلال فعاليات إطلاق كتبها أن تقوم بقراءة مقتطفات منها أمام الحضور، وهذا التفاعل المباشر بينها وبين الأطفال قد أثراها كثيرًا ككاتبة. علَّقت رشا على ذلك قائلة: “تعلَّمت من خلال القراءة للأطفال أنهم أصعب إرضاء من الكبار في بعض الأحيان. هذا لا يعني أنني لا أحب هذه الصفة فيهم، ولكنهم صرحاء لدرجة القسوة، وإن عزفوا عن قصة أو عن شرائها سيخبرونني بذلك بمنتهى الصراحة. ولكنهم على الجانب الآخر يتلهفون دائمًا لإخباري برأيهم في القصة، وما إذا كانت قد حازت على إعجابهم، أو لإخباري بقصة أخرى مشابهة أو معلومة ذات صلة. أتحمس دائمًا عندما أرى الدهشة والسعادة ترتسم على وجوههم عند الحديث عن بعض المهن المذكورة في كتاب “عندما أكبر أريد أن أكون…”؛ مثل المتزلج على الجليد أو مهندس الروبوتات أو بهلوان السيرك. لم يخطر على بال كثير منهم أن هناك مهن أخرى عدا المعلم والطبيب والمهندس (هذا لا يعني أن هذه المهن ليست مطلوبة أو جديرة بالاحترام، لكنها محدودة ولا تناسب الجميع). وبعدما أنتهي من قراءة الكتاب، تجد بعضهم يتبارى لتغيير إجابته على سؤال ’ماذا تريد أن تكون عندما تكبر؟‘. وكل هذا جعلني أدرك أننا بحاجة شديدة لمثل هذه الكتب التي تعمل على توسيع آفاق الأطفال، وأن قصص الحيوانات، مثل “حيوانات تسبح وتمرح وتتأرجح” و”Room for Me and You“، تسلط الضوء على ما يعرفه القراء الصغار من حقائق عن الحيوانات وتمدني بأفكار لحيوانات أخرى لأكتب عنها.”

صدر كتاب “Room for Me and You” في عام ٢٠٢٢ وهو أحدث إصدارات الدار. ألفته رشا مرتضى وأعدت رسوماته ساشا حداد وهو مستوحى من الأحداث التي قرأنا عنها أو شهدناها جميعًا مع بداية انتشار وباء الكورونا، لحيوانات تتنزه في شوارع المدن وتسترخي في الميادين وتمضي فيها وقتًا رائعًا من دوننا. ومن خلاله يطرح الكتاب السؤال التالي: “كيف يمكننا تحويل بلداتنا ومدننا إلى أماكن تشعر فيها الحيوانات بأنها موضع ترحيب طوال الوقت وليس فقط أثناء اختبائنا؟”

أما كتاب “I Love You from Afar” الذي تم إصداره في عام ٢٠٢٠ فهو مستوحى في الأساس من فكرة التباعد الاجتماعي وما يمثله من صعوبة، إلا أن موضوعه ينطبق في الوقت نفسه على أي موقف نعجز فيه عن لقاء أحبابنا. يطمئن الكتاب قراءه من الصغار والكبار بعبارات مقفية ورسومات جذابة بريشة ساشا حداد، ويذكرهم بأسلوبه اللطيف أن الحب قادر على اجتياز أية المسافات. منذ إصداره في لبنان في عام ٢٠٢٠ تم ترجمة الكتاب إلى الألمانية ونشره في ألمانيا من قبل دار نشر Ars Edition، وفي أستراليا من قبل Affirm Press، وفي الولايات المتحدة من قبل دار نشر HarperCollins. لطالما حلمت رشا بنشر كتب لقوم في جميع أنحاء العالم، حتى وإن تزامنت هذه الإصدارات العالمية بالصدفة مع أزمة لبنان المالية.

وعندما سألت رشا عن توجهها لبيع حقوق كتبها في الخارج أجابتني أن بيع حقوق الكتب هو وسيلة رائعة لنشر الكتب عالميًا، على عكس التوزيع، الذي غالبًا ما يكون صعبًا على دور النشر الصغيرة والمستقلة، خاصة إذا ما أرادت اقتحام أسواق أخرى. وذلك لأن دور النشر الكبرى قادرة على الوصول بالكتاب لجمهور أوسع نطاقًا باستراتيجيتها التسويقية القوية وطبعاتها الأكثر عددًا، بل وهذا من شأن دور النشر الأصغر حجمًا في الأسواق الأجنبية أيضًا. يمكنها المساهمة في وصول الكتاب لجماهير ربما لم يكن الناشر ليصل إليها بمفرده. في هذه الحالة، يلعب الناشر الأصلي دور الكاتب ويحصل على حقوق الملكية من الناشر الآخر. وأكدت لي رشا أنها كانت ستلجأ لهذه الوسيلة في جميع الأحوال (وتنصح بها غيرها من الناشرين أيضًا)، حتى لو لم يمر لبنان بهذه الأزمة الاقتصادية. فهي ترى أنه من الجيد أن يستقر الناشر في لبنان، ولكن، أن يتطلع في الوقت نفسه إلى التوسع إلى الأسواق العالمية. كما تتخذ رشا من مبيعاتها الدولية وسيلة لدعم مبيعات الكتب في لبنان، وذلك بسبب تزايد صعوبة تسعير الكتب وغيرها من المنتجات إزاء الانخفاض المستمر في قيمة العملة وارتفاع أسعار المواد. وهذا يساعدها على إبقاء أسعارها في حدود المعقول، حتى بالرغم من ارتفاع التكاليف، لأنها مؤمنة بأن الكتب ليست كماليات وأنها ينبغي أن تكون دائمًا في متناول الجميع.

لم تنس دار لقوم الكبار أيضًا، وأصدرت لهم كتاب بعنوان “55 Slightly Sinister Stories” (٥٥ قصة مرعبة بعض الشيء)، كتبته رشا بنفس أسلوبها المرح. وهذا الكتاب هو ثمرة شغفها بنمط الكتب الخيالية متناهية الصغر القائمة على قصص قصيرة جدًا تتراوح ما بين ست كلمات وألف كلمة، وهو في الوقت نفسه تكريم لعبقرية إدوارد جوري وتيم بورتن المخيفة. يضم الكتاب ٥٥ قصة، لكل منها ٥٥ كلمة، لا أكثر ولا أقل. إنها قصص بحجم اللقم الصغيرة أشبه بمقبلات أدبية متبلة بلمسة من الدعابة السوداء وقليل من اللامنطقية. ولتعزيز طابعها الفكاهي الخفي، تصحب كل منها رسمة يدوية رقيقة بالأبيض والأسود بريشة المصممة اللبنانية لين أتم.

إن أردت معرفة المزيد عن لقوم وعن خفايا صناعة النشر يمكنك مشاهدة هذه المقابلة مع رشا مرتضى.

بقلم: چنى العبيديين، راقصة وكاتبة وناشرة مستقلة مقيمة في بيروت بلبنان.

حقوق طبع ونشر الصور: رشا مرتضى/لقوم