المنسق، في رأيي، هو شرارة الانطلاق والدافع والحافز؛ هو المناكف الذي يرافق الفنان أثناء إعداد العرض وهمزة الوصل بينه وبين الجماهير.
هانز أولريش أوبريست
منسق فني سويسري، وناقد ومؤرخ فني. وهو المدير الفني لمعارض سرپنتين في لندن ومؤلف كتاب أساليب التنسيق الفني
(Ways of Curating).
القيم أو المنسق الفني هو شخص مبدع قادر على التقاط وإظهار روح الواقع الزمكاني الذي لا يعكس بالضرورة الواقع الجيوسياسي.
وإن المنسق، الذين يوصف عادة بالقيم الفني، هو في الواقع فنان متعدد التخصصات لديه من الوعي ما يمكنه من اكتشاف وتحديد الرؤى العامة لمشروعات زملائه الفنانين وتوليفها.
يلعب المنسقون دورًا محوريًا في رسم ملامح المشاهد الثقافية في جميع أنحاء العالم. فهم العوامل المحفزة، المؤثرة على درجة التفاعل في تجاربنا فنية. وعادة ما يتجلى عملهم على نحو أكثر وضوحًا في المتاحف والجاليريهات والمعارض الفنية والبيناليات، إلا أنه بدأ الآن يتجلى أيضًا على الساحات الرقمية والعامة.
وعلى الرغم من أن لبنان يضم مجموعة كبيرة من أشهر القيمين الفنيين، من أمثال كريستين طعمة وأكرم زعتري وهاشم سركيز، إلا أن هذه الممارسة لا تزال غير معروفة للجمهور. ووفقًا للمنسق اللبناني إبراهيم نعمة، فإن هذا قد يعود إلى “نقص الوعي العام بممارسات التنسيق الفني، مما يحول دون التحاق الشباب بهذا المجال”. وإن توافر مثل هذا التدريب الرسمي، قد يساعد الناس على فهم هذه الممارسة بشكل أفضل وعلى إقامة مشروعات فنية ريادية.
وأثناء استعدادي لكتابة هذا المقال اكتشفت أطروحة ماجستير كانت سببًا في انطلاق منصة مخصصة للقيمين الفنيين تحمل اسم “كودا“. تمزج الأطروحة بين ممارسات التنسيق الفني وتخطيط المشروعات التجارية، ويمكن استخدامها كدليل من قبل أولئك الذين يرغبون في اتباع مسار مهني مماثل، لأن دراسات التنسيق الفني لا تزال غير شائعة في لبنان ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وإذا ما توافرت، فإنها عادة ما تسلط الضوء على الدراسات المتحفية والتاريخ الفني بدلاً من الممارسات الفنية المعاصرة. ولهذا تجد معظم المنسقين الفنيين المعاصرين في لبنان والشرق الأوسط من العصاميين الذين دفعهم حبهم وشغفهم بالفن إلى تعليم أنفسهم بأنفسهم.
وليتسنى لكم التعمق أكثر في هذا المجال، نستعرض لكم فيما يلي بعض النصائح والخبرات حول ممارسة التنسيق الفني وما … استمدها المنسق إبراهيم نعمة من واقع خبراته الشخصية. جدير بالذكر أن إبراهيم نعمة منسق فني ومبدع ومتحدث مقيم في لبنان، وهو كذلك من أسس مجلة آوتبوست.
تعريف التنسيق الفني
ممارسة التنسيق الفني هي عملية فنية أو إبداعية قائمة على البحث، وتضم، في رأيي، ثلاث مراحل:
الحوار والاندماج والتواصل. على المنسق ألا يكتفي بأن يكون جزءًا فقط من مختلف شبكات الفنانين والمنتجين الثقافيين، بل وأن يكون دائمًا على تواصل ودائم الحوار مع هؤلاء. فهذه المحادثات هي في الأساس ما ينشط ويدفع عمل المنسق ويروج له. وينبغي على المنسق أيضًا أن يستشف ويبرز خيوط العمل الفني المختلفة من هذه المحادثات، ليتسنى له في النهاية تضمينها في وحدة فنية كاملة متكاملة. وفي النهاية، ينبغي أن يكون قادرًا على تجسيد هذا التكامل من خلال أساليب تعبيرية وتجارب مختلفة.
مهارات التنسيق الفني
أعتقد أن العمل كقيم فني يتطلب الكثير من الفضول. يحتاج المنسق إلى أن يكون شغوفًا بالتعرف على آليات العالم والتوجهات والتيارات العديدة التي ترسم ملامح روح العصر، وأن يكون قادرًا على مناغمة هذه الخيوط مع بعضها البعض ومزجها بالمنطق لاشتقاق معانٍ جديدة منها، حتى، أو بالأحرى على الأخص إذا لم يكن هناك توافق تلقائي أو منطقي بين هذه الخيوط.
والمهارة الأخرى التي ينبغي وأن يتحلى بها المنسق الفني هي الثقة. لا بد من وجود ثقة متأصلة ومتبادلة بين المنسق والفنان، وأن يكون الفنان على استعداد للوثوق في رؤيتي كمنسق وأن يعبر عن ثقته اللانهائية ودعمه التام للمنسق في تنفيذ مشروعهما الفني. فالثقة من أهم المهارات الإنتاجية.
كيف تصبح منسقًا فنيًا؟
لم أكن لأتصور أبدًا أن أصبح منسقًا فنيًا، بل إنني لم أكن حتى أعرف شيئًا عن هذه المهنة إلا في مرحلة لاحقة من شبابي. فلقد حدث كل هذا بالصدفة. صرت كاتبًا بالصدفة، وهذا هو ما دفعني لاحقًا إلى تأسيس وتحرير مجلة. واكتشفت خلال تحرير وتجميع طبعات المجلة، واحدة بعد الأخرى، أنني أستمتع بهذا العمل حقًا، وتقبلت في النهاية ميولي إلى التنسيق الفني وبدأت في تطبيق عملي من هذا المنطلق.
ويمكنني القول أيضًا أنني استندت في المقام الأول إلى مجلة آوتبوست في تعلُّم الحرفة. أعتقد أن تحرير مجلة مطبوعة يعلم المرء التضحية، لأنه ينبغي في النهاية أن يتسع عدد صفحات المجلة للمحتوى كله. فتعلمت أن أثق في حكمي في اختيار ما ينبغي الاستغناء عنه وما ينبغي الإبقاء عليه. وتبين أنها مهارة مطلوبة جدًا في المنسق الفني.
محرك التنسيق الفني
إن ما يدفع عمل المنسق الفني ويعززه هو حرصه على استكشاف العلاقة بين الناتج الثقافي والتأثير الاجتماعي. لدي اهتمام كبير بالاقتصادات والنظم البيئية التي تضع الأصوات المهمشة على خريطة التيارات السائدة، وبالفرص التي تتفتح عند اختراق هذه الحدود.
من مشروعات التنسيق الفني
في إطار مشاركتي في برنامج إقامة فنية مع مبادرة “أسبوع عمَّان للتصميم” استمتعت كثيرًا بافتتاح مقهى أوتبوست في عمان في عام ٢٠١٩ كساحة تجريبية للاندماج في المجتمع المحلي وإشراك رواد المقهى من سكان الحي في عملية تحرير المجلة بأسلوب جديد ومثير للاهتمام من خلال حملهم على تدوين قصصهم على بطاقات بريدية مقابل الحصول على قهوة مجانية تحت شعار “إذا لعبت، لن تدفع”. تمكَّنت في النهاية من جمع قصص كثيرة تم عرضها في معرض ونشرها في المجلة، بل وأصبحت مصدر إلهام لمجموعة من الموسيقيين الذين أتوا وقدموا عروضهم أمام الجمهور على الهواء مباشرة. أعشق العمل مع المجتمع وإشراكه في أنشطة ممتعة، ودمج ما يقدمه من محتوى في النهاية في المشهد الإبداعي. فهذا من شأنه أن يعزز المجتمع إلى حد كبير.
مصدر الإلهام
تلهمني أماندا أبي خليل بعملها وبما استطاعت تحقيقه من إنجازات خلال السنوات القليلة الماضية. يتميز أسلوبها في التنسيق الفني برغبة خفية في التأثير المجتمعي تظهر بشكل مختلف في كل مرة، ولكنها حاضرة بقوة وبراعة في كل مشروعاتها.
بالإضافة إلى عملها كمنسقة فنية، أسست أماندا منصة الفن المؤقتة وهي منظمة غير ربحية تستعين ببرامج الإقامات والمشروعات البحثية واللجان في توجيه الحوار الإبداعي والتنظيمي نحو القضايا الاجتماعية والسياقية. تخلق منصة الفن المؤقتة أدوات وفرص إنتاجية يَسهُل الوصول إليها من قبل الفنانين المعاصرين، وتضفي على فنونهم طابعًا مساميًا قائمًا على المشاركة في إطار المشهد الفني وخارجه.
نصيحة للمنسقين المستقبليين
عليك أن تتفقَّد كل الاتجاهات. ودرِّب عقلك على التفكير بأسلوب قادر على رؤية أوجه التشابه والتوافق بين الأضداد، وعلى إيجاد المعنى بين العناصر التي لا تبدو منطقية معًا.
بقلم: چنى العبيديين، راقصة وكاتبة وناشرة مستقلة مقيمة في بيروت بلبنان.
حقوق النشر: إبراهيم نعمة/ مجلة آوتبوست