بقلم سازان مـ. مندلاوي، منسقة ومُدَوِنة شغوفة في طريقها للحصول على درجة الدكتوراه في مجال التعليم. تسلِّط الضوء في مدوناتها على المشهد الثقافي والإبداعي بإقليم كردستان بالعراق
منزل كلاسيكي قديم في إربيل مطل على طريق بضاحية عنكاوا الشبيهة بالمتاهة. تشعر بجدرانه تشع حيوية وحياة وإيجابية من قبل حتى أن تطأه قدماك. يعبِّر لك عن شخصية سكانه من قبل أن يفتحوا لك الباب للترحيب بك. حين ترى أثاث الحديقة المصنوع يدويًا تشعر وكأنك تتصفح موقع پينترست. وتستقبلك في الفناء الأمامي مئات المنحوتات والمشغولات الفخارية واختيارات ألوان فريدة من نوعها وأشغال فنية يدوية على الحوائط وقول مأثور على لوحة معلقة دومًا عند المدخل وبجانبها باقة من الورود المقطوفة من الحديقة؛ كل هذا ولم يتسنَ لك قول مرحبًا بعد!
إنه ليس بمنزل من الأساس، بل معرض سِڤ جاليري Sev Gallery الذي كان في الأصل منزلًا وتم تحويله إلى مركز فني. ولمن يعود الفضل في تأسيسه؟ لـ زنارا أحمد، التي، لو رأيتها من بعيد، لعرفت بسهولة أنها هي مؤسسة المركز. لديها طاقة مُعْديَّة، ودائمًا ما ترتدي ملابس سوداء، وتعكس تصفيفة شعرها الفن الكامن في جيناتها؛ فترتدي أحيانًا ربطة شعر أو باندانة زاهية اللون وأحيانًا ترفع شعرها وتلفه حول توكة من الصلصال. وتترك في أحيان أخرى شعرها مسدلًا بعفوية على كتفيها فيحيط بمثالية بوجهها الخالي في معظم الأحيان من مساحيق التجميل. تزينها ابتسامتها وحركاتها المنطلقة حين تنتقل من قاعة إلى أخرى بمعرضها، معرض سِڤ، وكأنها فراشة ترفرف بجناحيها من زهرة لزهرة في حديقة من الورود. فقاعات هذا المعرض هي حديقة الورود الخاصة بزنارا.
قامت زنارا بتدريس الخزف بإحدى جامعات سوريا ومارست فن الخزف عمليًا لعشر سنوات. ولكنّ الفن بالنسبة لزنارا أكثر من مجرد ممارسة، فهي تعيش الفن وتتنفسه وتوظِّفه في حياتها اليومية.
دخلت مركز سِڤ جاليري لأول مرة مع طفليّ حين دعتني صديقتي لحضور عيد ميلاد ابنتها هناك. عادة ما تتم دعوتي لحفلات أعياد ميلاد أشبه بالخطوبات في إربيل؛ من حيث الديكورات الفاخرة والكعكات متعددة الأدوار والتحف البراقة المعروضة على الطاولات الفخمة للاستعراض فقط وليس للمس، وكذلك الكعكات المكوبة التي تشفق على جمالها حين ترى الأطفال يقضمونها بأسنانهم.
ولكنّ عيد الميلاد هذا كان مختلفًا واستثنائيًا. لم يسبق لي أن حضرت شيئًا مماثلًا من قبل.
في البداية، جلس الأطفال في إحدى القاعات يرسمون، ثم بدأوا في تلوين لوحاتهم. بعدها انتقلوا إلى قاعة أخرى مع اثنين من المتخصصين وارتدوا مآزر لصنع أدوات وتماثيل فخارية بالطين – بينما كان هناك شخص ثالث يقوم ببروزة اللوحات التي رسموها سابقًا.
مكث الآباء في الردهة يضحكون ويتحدثون حول مدى سعادة الأطفال بعودتهم للمدارس مرة أخرى بعد عشرة أشهر من التعليم الإلكتروني. وكانت أصوات ضحكاتنا كخلفية موسيقية لأطفالنا وهم يبدعون أعمالهم الفنية.
وقبل أن نشعل الشموع ونغني أغنية عيد الميلاد، كانت الطاولة قد تم تجهيزها ببوفيه من المأكولات الصحية الطازجة.
أتذكر أنني توجهت لزنارا في ذلك اليوم وقلت لها: “إنك تستحدثين ثقافة جديدة في هذا المجتمع”. فابتسمت لي ابتسامة عريضة مشرقة. كنت أعرف أن هذا هو حلمها وما تسعى بداخلها إلى تحقيقه.
وذات مرة، تواعد صديقاي المتزوجان حديثًا في مركز سِڤ جاليري من أجل تعلُّم حرفة الخزف وصناعة الأواني والتماثيل الفخارية وكل أنواع الخزف الأخرى. حسبما أتذكر كان الناس في مدينتي يتواعدون في المطاعم الراقية بحي إربيل الذهبي لتناول الأطعمة الفاخرة. أما صناعة الخزف في حي مجاور على أنغام الموسيقى وضوء الشموع، فهي تجربة جديدة وفريدة من نوعها لن تجدها في أي مكان سوى عند زنارا، التي تستحدث بإبداعها ثقافة جديدة في هذا المجتمع المحلي.
وخلال حديثي مع زنارا عن المبدعين في كردستان، أكدت لي أنه على الرغم من كون مركز سِڤ جاليري في بداياته، إلا أنه يتيح فرصة للمبدعين من الصغار والكبار لاكتشاف مواهبهم، وربما اتخاذ الفنون، والخزف تحديدًا، هواية لهم.
وبينما سرنا عبر قاعات سِڤ جاليري المتواضعة قالت لي: “من الممكن توظيف الفن في تطوير المهارات الفردية، فهو أداة من أدوات الدعم النفسي، بل ويساهم في إحداث تأثير تربوي على المجتمع… فالفن هو أجمل شيء في الحياة. الموسيقى والرسم والإبداع هي من وسائل تنفيس الضغط”. أشعر أن لديها تصور عظيم لهذا المشروع، ولكنها بدأت على نطاق صغير لتستكشف المجال وردود الأفعال في البداية.
قدمت زنارا ضمن خطواتها الأولى في المشروع دورات تدريبية في المدارس والحضانات لتعليم صناعة الفخار والخزف، وكذلك دروسًا خصوصية وغيرها من الخدمات المختلفة؛ كأعياد الميلاد والاحتفالات والدروس الفنية والحجوزات الخاصة.
إن مركز زنارا أكثر من مجرد بيت للإبداع. فهو يجمع الناس من مختلف مناحي المجتمع. ولا أظن أن هناك مكان آخر في مدينتي قد ترى فيه سيدات أجانب من أمريكا والسودان وامرأة من كركوك وثنائيًا من بغداد وأم من لبنان وموظف سويدي شاب في منظمة محلية غير حكومية جالسين معًا يصنعون الخزف على أنغام الموسيقى. لا يسعني إلا ن أتخيل مدى استمتاع موظفي شركة أو منظمة بقضاء أمسية في مركز سِڤ جاليري وسط حالة من الإبداع الجماعي وتدليل بأشهى المأكولات.
أشعر بخفة كلما دخلت منزل زنارا وأغادره بدفعة من الإلهام والحماس ومن دون أية ضغوط. تشعرني أنني لم أفوت فرصة بتربية أبنائي هنا بدلًا من دولة غربية متقدمة.
تقول لي زنارا: “جزء من رؤيتي يتمثل في المساهمة في التوعية الثقافية والفنية في إقليم كردستان.” وأنا أظن أن رؤيتها قد بدأت تتحقق بالفعل.
حقوق نشر الصور: زنارا أحمد